تلك الخميرة عند فرعون تختمر بها عجين طينته ، وما ظهر حكمها ولا اختمر عجينه إلا في الوقت الذي قال فيه : (آمَنْتُ) فتلفظ باعتقاده الذي معه (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ) وما سمى الله ، ليرفع اللبس والشك ، إذ قد علم الحاضرون أن بني إسرائيل ما آمنت إلا بالإله الذي جاء موسى وهارون من عنده إليهم ، فلو قال : «آمنت بالله» وهو قد قرر أنه ما علم لقومه من إله غيره ، لقالوا : لنفسه شهد لا للذي أرسل موسى إلينا ، كما شهد الله لنفسه ، فرفع هذا اللبس بما قاله ، عند ذلك أخذ جبريل حال البحر فألقمه في فم فرعون حتى لا يتلفظ بالتوحيد ، ويسابقه مسابقة غيره على جناب الحق ، مع علمه بأنه علم أنه لا إله إلا الله ، وغلبه فرعون ، فإنه قال كلمة التوحيد بلسانه كما أخبر الله تعالى عنه في كتابه العزيز ، فجاء فرعون باسم الصلة وهو (الَّذِي) ليرفع اللبس عند السامعين ولرفع الإشكال عند الأشكال ، وهذا هو التوحيد الثاني عشر في القرآن ، وهو توحيد الاستغاثة ، وهو توحيد الصلة ، فإنه جاء بالذي في هذا التوحيد ، وهو من الأسماء الموصولة ، وقدم الهوية في قوله : أنه» ليعيد ضميربه» عليه ، ليلحق بتوحيد الهوية ، ثم تمم وقال : (وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) خطاب منه للحق ، لعلمه بأنه تعالى يسمعه ويراه ، قال ذلك لما علم أن الإله هو الذي ينقاد إليه ولا ينقاد هو لأحد ، أعلم بذلك فرعون ، ليعلم قومه برجوعه عما كان ادعاه فيهم من أنه ربهم الأعلى ، فأمره إلى الله ، فإنه آمن عند رؤية البأس ، وما نفع مثل ذلك الإيمان فرفع عنه عذاب الدنيا ، إلا قوم يونس ، ولم يتعرض للآخرة ، ثم إن الله صدّقه في إيمانه بقوله :
(آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (٩١)
قال تعالى لفرعون : (آلْآنَ) قلت ذلك ، فأثبت الله بقوله : (آلْآنَ) أنه آمن عن علم محقق والله أعلم وإن كان الأمر فيه احتمال ، فدل على إخلاصه في إيمانه ، ولو لم يكن مخلصا لقال فيه تعالى كما قال في الأعراب الذين قالوا : (آمَنَّا) (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) فشهد الله لفرعون بالإيمان ، وما كان الله ليشهد لأحد بالصدق في توحيده إلا ويجازيه به ، وبعد إيمانه فما عصى ، فقبله الله إن كان قبله طاهرا ، والكافر إذا أسلم وجب عليه أن يغتسل ، فكان غرقه غسلا له وتطهيرا ، حيث