أخذه الله في تلك الحال نكال الآخرة والأولى ، وجعل ذلك عبرة لمن يخشى ، وما أشبه إيمانه إيمان من غرغر ، فإن المغرغر موقن بأنه مفارق ، قاطع بذلك ، وهذا الغرق هنا لم يكن كذلك ، لأنه رأى البحر يبسا في حق المؤمنين ، فعلم أن ذلك لهم بإيمانهم ، فما أيقن بالموت ، بل غلب على ظنه الحياة ، فليس منزلته منزلة من حضره الموت فقال : (إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) ولا هو من الذين يموتون وهم كفار فأمره إلى الله تعالى.
(فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) (٩٢)
كان حكم آل فرعون في نفس الأمر خلاف حكم فرعون في نفسه ، فإنه علم صدق موسى عليهالسلام ، وعلم حكم الله في ظاهره بما صدر منه ، وحكم الله في باطنه بما كان يعتقده من صدق موسى فيما دعاهم إليه ، وكان ظهور إيمانه المقرر في باطنه عند الله مخصوصا بزمان مؤقت ، لا يكون إلا فيه ، وبحالة خاصة ، فظهر بالإيمان لما جاء زمانه وحاله ، فغرق قومه آية ، ونجاة فرعون ببدنه دون قومه عند ظهور إيمانه آية ، فمن رحمة الله بعباده أن قال (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ) يعني دون قومك (لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) أي علامة لمن آمن بالله أي ينجيه الله ببدنه أي بظاهره ، فإن باطنه لم يزل محفوظا بالنجاة من الشرك ، لأن العلم أقوى الموانع ، فسوّى الله في الغرق بينهم ، وتفرقا في الحكم ، فجعلهم سلفا ومثلا للآخرين ، يعني الأمم الذين يأتون بعدهم ، وخص فرعون بأن تكون نجاته آية لمن رجع إلى الله بالنجاة ، فإن الحق خاطب فرعون بلسان العتب وأسمعه (آلْآنَ) أظهرت ما قد كنت تعلمه (وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) فهي كلمة بشرى لفرعون عرفنا الحق بها لنرجو رحمته مع إسرافنا وإجرامنا ، ثم قال : (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ) فبشره قبل قبض روحه (بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) يعني لتكون النجاة لمن يأتي بعدك (آيَةً) علامة ، إذا قال ما قلته تكون له النجاة مثل ما كانت لك ، وما في الآية أن بأس الآخرة لا يرتفع ولا أن إيمانه لم يقبل ، وإنما في الآية أن بأس الدنيا لا يرتفع عمن نزل به إذا آمن في حال رؤيته إلا قوم يونس ، فقوله : (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ) إذ العذاب لا يتعلق إلا بظاهرك ، وقد أريت الخلق نجاته من العذاب ، فكان