أنه قد أخبرك أن يده بناصيتك اضطرارا ، فاجعل زمامك بيده اختيارا فتجن ثمرة الاختيار والاضطرار بجمعك بين اليدين ، واعلم أن العباد في قبضة الحق ، قال تعالى : (ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها) لما هي مصرفة فيه ، فالكل في قبضته من قضائه في قضائه ، ومع ذلك عليك بأمر الحق فاتبعه ، ولا تغتر بكونك لا ترى شيئا إلا تحت تصريفه وحكم إرادته ، هذا لا ينجيك والأخذ بأمر الحق ينجيك ، لكن انظر ذلك عقدا وتصرّف بالأمر.
(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) (٥٧)
اعلم أن النبي لا بد له من النظر إلى نفسه ، فإن الجلوس مع الله لا تقتضي البشرية دوامه ، وإذا لم يدم فما ثم إلا النفس ، وكذا ورد ما من نبي إلا وقد قال (فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ) فأضاف التبليغ إلى نفسه ولم يقل في هذه الحال ، قد بلّغ الله إليكم بلساني ما قد أسمعكم ، لذلك ابتلى الله الأنبياء بمخالفة أممهم ، فاختلفوا عليه ، واختلفوا فيما بينهم وإن اجتمعوا عليه ، فإن النبي في تلك الحالة صاحب دعوى ، أنه بلغ رسالة ربه ، وفي هذا لله حكم خفي ليعلم العبد أنه محلّ للتوفيق ونقيضه ، وأنه لا حول ولا قوة إلا بالله على ما أمر به ونهى عنه (وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) إذا أخليت العالم عن حفظ الله ، لم يكن للعالم وجود وفني ، وإذا سرى حفظ الله في العالم بقي العالم موجودا ، فبظهوره وتجليه يكون العالم باقيا ، وبهذا يصح افتقار العالم إلى الله في بقائه في كل نفس ، واجتمع الموحدون والمشركون في الحفظ الإلهي عناية من الله بالخلق ، فإن الممكن إذا وجد لا بد من حافظ يحفظ عليه وجوده ، وبذلك الحافظ بقاؤه في الوجود كان ذلك الحافظ ما كان من الأكوان ، فالحفظ خلق الله ، فلذلك نسب الحفظ إليه ، لأن الأعيان القائمة بأنفسها قابلة للحفظ بخلاف ما لا يقوم بنفسه من الممكنات ، فإنه لا يقبل الحفظ ويقبل الوجود ولا يقبل البقاء ، فليس له من الوجود غير زمان وجوده ، ثم ينعدم ، ومتعلق الحفظ إنما هو الزمان الثاني الذي يلي زمان وجوده فما زاد ، فالله حفيظ رقيب ، فكل موجود له بقاء في وجوده ، فلا بد من حافظ كياني يحفظ عليه وجوده ، وذلك