(وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (١٠٦)
لمعرفتهم بالأسباب المولدة لتلك الآيات ، كالزلازل والكسوفات وما يحدث من الآثار العلوية (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ) ولم يقل بتوحيد الله ، فالمشرك مؤمن بوجود الله لا بتوحيده (إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) والشرك منه جلي وخفي ، فالمؤمن بتوحيد الله مؤمن بوجود الله ، وما كل مؤمن بوجود الله يكون مؤمنا بتوحيد الله ، فينقص عن درجته في قوة الإيمان ، فإنّه لما أخذ الله من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ، قالُوا بَلى) وما كان إلا التصديق بالوجود والملك لا بالتوحيد ، وإن كان فيه توحيد فغايته توحيد الملك ، فجاء قوله تعالى (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) لما خرجوا إلى الدنيا ، لأن الفطرة إنما كانت إيمانهم بوجود الحق والملك لا بالتوحيد ، فلما عدم التوحيد من الفطرة ظهر الشرك في الأكثر ممن يزعم أنه موحد ، وما أدّى من أدّاه إلى ذلك إلا التكليف ، فإنه لما كلفهم تحقق أكثرهم أن الله ما كلفهم إلا وقد علم أن لهم اقتدارا نفسيا على إيجاد ما كلفهم به من الأفعال ، فلم يخلص لهم توحيد ، فلو علموا من ذلك أن الله ما كلفهم إلا لما فيهم من الدعوى في نسبة الأفعال إليهم ، التي نسبوها إلى أنفسهم لتجردوا عنها بالله لا بنفوسهم ، كما فعل أهل الشهود ، فمن علم ذلك أقام العذر عند الله لعباد الله فيما أشركوا فيه عند إيمانهم ، فإن الله أثبت لهم الإيمان بالله وهو خير كثير وعناية عظمى ، فإذا سمع السامع الخبر النبوي بوجود الله آمن به على ما يتصوره ، فما آمن إلا بما تصوره ، والله موجود عند كل تصور كما هو موجود في خلاف ذلك التصور بعينه ، فما آمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ، لما يطرأ عليهم في نفوسهم من مزيد العلم بالله ، ولو في كل مزيد تصور فيه ليس عين الأول ، وليس إلا الله في ذلك كله ، فما جاء الله بهذه الآية إلا لإقامة عذرهم ، ولم يتعرض سبحانه للتوحيد ، ولو تعرض للتوحيد لم يصح قوله (إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) مع ثبوت الإيمان ، فدل أنه ما أراد الإيمان بالتوحيد ، وإنما أراد الإيمان بالوجود ، ثم ظهر التوحيد لمن ظهر في ثاني حال ـ وجه آخر ـ الشرك الخفي هو الاعتماد على الأسباب الموضوعة ، والركون إليها بالقلب ، فإن ذلك من أعظم رزيّة دينية في المؤمن ، وهو المراد بقوله تعالى (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ)