بحسب ما فطرهم الله تعالى عليه ، فإن الآيات معتادة وغير معتادة ، فالخواص العالم كله عندهم آيات بينات ، والعامة ليست الآيات عندهم إلا التي هي عندهم غير معتادة ، فتلك تنبههم إلى تعظيم الله ، والله قد جعل الآيات المعتادة لأصناف مختلفين من عباده فمنها للعقلاء وآيات للموقنين وآيات لأولي الألباب ، وآيات لأولي النهي وآيات للسامعين ، وآيات للعالمين وآيات للعالمين وآيات للمؤمنين ، وآيات للمتفكرين وآيات لأهل الذكر ، فهؤلاء كلهم أصناف نعتهم الله بنعوت مختلفة وآيات مختلفة ذكرها لنا في القرآن إذا بحثت عليها وتدبرتها علمت أنها آيات ودلالات على أمور مختلفة ترجع إلى عين واحدة ، غفل عن ذلك أكثر الناس ، ولهذا عدد الأصناف ، فيتلوها جميع الناس ولا يتنبه لها إلا الأصناف الذين ذكرهم في كل آية خاصة ، فكأن تلك الآيات في حق أولئك أنزلت ، وفي حق غيرهم لمجرد التلاوة ليؤجروا عليها (لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) أي انتقالكم من وجود الدنيا إلى وجود الآخرة أقرب في العلم إن كنتم توقنون من انتقالكم من حال العدم إلى حال الوجود ، وتوقنون أي تثبتون على موازين الحكم.
(وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٣)
وهو الاعتبار والنظر المأمور به شرعا (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) فيما أخفاه من غامض حكمته في أحكامه ، فلو لا ما نصب الله الأدلة ما شرع للعقلاء التفكر ولا طالبهم ، وكذلك في معرفتهم به سبحانه ، فإذا تعدى بالفكر حدّه وفكر الإنسان فيما لا ينبغي له أن يفكر فيه عذب يوم القيامة بنار فكره ، ثم إنّ الإنسان يشغله الفكر فيما لم يشرع له التفكر فيه عن شكر المنعم على النعم التي أنعم الله عليه بها ، فيكون صاحب عذاب ، عذاب الفكر فيما لا ينبغي وعذاب عدم الشكر على ما أنعم به عليه ، فإن الله سبحانه قد شاء أن يبرز العالم في الشفعية لينفرد سبحانه بالوترية ، فيصح اسم الواحد الفرد ، ويتميز السيد من العبد ، فقال (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) فإذا أخذت في الفكر والاعتبار في هذه الآية رأيت أن الإنسان من جملة الثمرات ، ينمو كنمائها ويتغذى كغذائها ، ثم ينتهي كنهايتها ، ويؤخذ منه