فإن جبريل عليهالسلام من الملائكة وهو معلم أكابركم ، وهم الرسل صلوات الله عليهم وسلامه ، والنبي محمد صلىاللهعليهوسلم يقول حين تدلى إليه ليلة إسرائه رفرف الدر والياقوت فسجد جبريل عليهالسلام ولم يسجد النبي صلىاللهعليهوسلم ، وقال : فعلمت فضل جبريل علي في العلم عند ذلك ، ثم إنكم عن لمة الملك تتصرفون في مرضاة الله ، فهم الذين يدلونكم على طرق سعادتكم والتقرب ، فبأي شيء تعتزون على الملائكة ، فكونوا مثل أبيكم تسعدوا ، وما ثم فضل إلا بالسجود والعلم وقد خرج من أيديكم ، والذين لهم العزة من النبيين ليس إلا الرسل والمؤمنون ، فمن ارتاض برياضة الله فقد أفلح وسعد ـ سر في السجود ـ قال تعالى في الملأ الأعلى إذ يختصمون ، ولهذا أمروا بالسجود لآدم عليهالسلام ، فإن الاعتراض خصام في المعنى والخصم قوي ، فلما أعطي الإمامة والخلافة وأسجدت له الملائكة ، وعوقب من أساء الأدب عليه وتكبر عليه بنشأته ، وأبان عن رتبة نفسه بأنها عين نشأته ، فجهل أوّلا فكان بغيره أجهل ، ولا شك أن هذا المقام يعطي الزهو والافتخار لعلو المرتبة ، والزهو والفخر داء معضل وإن كان بالله تعالى ، فأنزل الله لهذا الداء دواء شافيا ، فأمر الإمام بالسجود للكعبة ، فلما شرب هذا الدواء برىء من علة الزهو وعلم أن الله يفعل ما يريد وما تقدم على من تقدم عليه من الملائكة بالصفة التي أعطاه الله لعلو رتبته على الملائكة ، وإنما كان ذلك تأديبا من الله لملائكته في اعتراضهم ، وهو على ما هو عليه من البشرية ، كما أنه قد علم أنه ما سجد للكعبة لكون هذا البيت أشرف منه ، وإنما كان دواء لعلة هذه الرتبة ، فكأن الله حفظ على آدم صحته قبل قيام العلة به ، فإنه من الطب حفظ الصحة ، وهو أن يحفظ المحل أن يقوم به مرض لأنه في منصب الاستعداد لقبول المرض ، وقد علم أنه وإن سجد للبيت فإنه أتم من البيت في رتبته ، فعلم أن الملائكة ما سجدت له لفضله عليهم ، وإنما سجدت لأمر الله ، وما أمرها الله إلا عناية بها لما وقع منهم مما يوجب وهنهم ، ولكنهم لما لم يقصدوا بذلك إلا الخير اعتنى الله بهم في سرعة تركيب الدواء لهم بما علمهم آدم من الأسماء ، وبما أمروا به من السجود له ، وكل له مقام معلوم ، فابتليت الملائكة بالسجود جبرا لما أخذت من طهارتها الدعوى (وهي قولها أتجعل فيها ...) ، فكان ذلك للملائكة كالسهو في الصلاة للمصلي ، فأمر أن يسجد لسهوه ، كذلك أمرت الملائكة أن تسجد لدعواها ، فإن الدعوى سهو في حقها ، فكان ذلك ترغيما للدعوى لا لهم