ـ وجه ـ اعلم أن أول ما خلق الله العقل ، وهو الذي ظهرت منه هذه العقول بوساطة هذه النفوس الطبيعية ، وسماه الله في كتابه العزيز الروح ، وأضافه إليه فقال في حق النفوس الطبيعية وحق هذا الروح وحق هذه الأرواح الجزئية التي لكل نفس طبيعية (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) وهو هذا العقل الأكبر (فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ).
(فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) (٣٠)
فما بقي ملك إلا سجد لأنهم الذين قال الله لهم اسجدوا لآدم ، والملائكة هي الرسل من الأرواح خاصة ، فإن الألوكة هي الرسالة في لسان العرب ، والسجود هو التطاطي في اللسان فأمر الله تعالى الملائكة بالسجود لمعلمهم سجود أمر ـ كسجود الناس إلى الكعبة ـ وتشريف ، لا سجود عبادة نعوذ بالله ، وهو التواضع والخضوع والإقرار بالسبق والفخر والشرف والتقدم له ، كتواضع التلميذ لمعلمه ، وإذا حصل موجود في مقام تتعلم منه الملائكة ، فأحرى من دونهم ، وذلك تشريف من الله سبحانه ، ودليل قاطع على ثبوت إرادته (يختص برحمته من عباده من يشاء) ـ إشارة ـ إن المقام المحمود يكون لرسول الله صلىاللهعليهوسلم في الآخرة ، وكان في الدنيا لآدم أبي البشر ، وقام فيه حين سجدت له الملائكة ، وظهر آدم في ذلك المقام لكونه كان يتضمن جسده بشرية محمد صلىاللهعليهوسلم ، وآدم هو الأب الأعظم في الجسمية والمقرب عند الله ، وأول هذه النشأة الترابية الإنسانية ، فظهرت فيه المقامات كلها حتى المخالفة ، إذ كان جامعا للقبضتين قبضة الوفاق وقبضة الخلاف.
(إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) (٣١)
ونصب إبليس على الاستثناء المنقطع لا المتصل ، ولو لا ما ذكر الله إبليس بالإباية ما عرفنا أنه أمر بالسجود.
(قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ) (٣٥)