الحكمة إنزال الأمر منزلته ولا يتعدى به مرتبته ، وهي كلها أخلاق ، ولا تكون إلا لمن جعل القرآن إمامه ، فينظر إلى ما وصف الحق به نفسه ، وفي أي حالة وصف نفسه بذلك الذي وصف نفسه ، ومع من صرف ذلك الوصف الذي وصف به نفسه ، فليقم الداعي بهذا الوصف بتلك الحال مع ذلك الصنف ، فأنزل الله الميزان ، وبيّن المواطن والأحوال ، فلا تخرج شيئا عن مقتضى ما تطلبه الحكمة (وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) فهي الموعظة التي تكون عند المذكّر بها عن شهود ، فإن الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فكيف بمن حقق أنه يراه؟ فإنه أعظم وأحسن ، ولا تكون الموعظة بصفة قهر ولا منفرة ، فإن جادلوك قال تعالى : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم بالجدال الذي تطلبه الأسماء الإلهية ، وهو قوله (بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) كما ورد في الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فإذا جادل بالإحسان جادل كأنه يرى ربه ، قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم لأبي هريرة : [إذا خلوت بيهودي أو نصراني أو مجوسي فلا يحل لك أن تفارقه حتى تدعوه إلى الإسلام ، يا أبا هريرة لا تجادل أحدا منهم فعسى ، أن يأتيك بشيء من التنزيل فتكذبه ، أو تجيء بشيء فيكذبك ، لا يكون من حديثك إلا أن تدعوه إلى الإسلام] وهو قول الله تعالى (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) الدعاء إلى الإسلام ، هذه هي الصفة اللازمة التي ينبغي أن يكون الداعي إلى الله عليها ، ولا ينبغي لمسلم ممن ينتمي إلى الله أن يجادل إلا فيما هو فيه محق عن كشف لا عن فكر ونظر ، فإذا كان مشهودا له ما يجادل عنه ، حينئذ يتعيّن عليه الجدال فيه بالتي هي أحسن إذا كان مأمورا بأمر إلهي ، فإن لم يكن مأمورا فهو بالخيار ، فإن تعين له نفع الغير بذلك كان مندوبا إليه ، وإن يئس من قبول السامعين له فليسكت ولا يجادل ، فإن جادل فإنه ساع في هلاك السامعين عند الله (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) أي بالقابلين التوفيق ، فإنهم على مزاج خاص أوجدهم عليه ، فمن لا علم له بالحقائق يقول : إن العبد إذا صدق فيما يبلغه عن الله في بيانه أثر ذلك في نفوس السامعين ، وليس كما زعموا ، فإنه لا أقرب إلى الله ومن الله ولا أصدق في التبليغ عن الله ولا أحب في القبول فيما جاء به من عند الله من الرسل صلوات الله عليهم وسلامه ، ومع هذا فما عمّ القبول من السامعين ، بل قال الرسول الصادق في التبليغ [فلم يزدهم دعائي إلا فرارا] فلما لم يعم مع تحققنا هذه الهمة ، علمنا أن الهمة ما لها أثر جملة واحدة في المدعو ، والذي قبل من السامعين ما قبل من أثر