لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً) (٢٣)
علماء الرسوم يحملون لفظ (قَضى) على الأمر ، ونحن نحملها على الحكم ، فقوله تعالى (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) أي حكم ، وقضاء الحق لا يردّ ، والعبادة ذلة في اللسان المنزل به هذا القرآن ، قال تعالى (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) فإن العبادة ذاتية للمخلوق لا يحتاج فيها إلى تكليف ، فكما قال (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ) ولم يذكر افتقار مخلوق لغير الله ، قضى أن لا يعبد غير الله ، فمن أجل حكم الله عبدت الآلهة ، فلم يكن المقصود بعبادة كل عابد إلا الله ، فما عبد شيء لعينه إلا الله ، وإنما أخطأ المشرك حيث نصب لنفسه عبادة بطريق خاص لم يشرع له من جانب الحق ، فشقي لذلك ، فإنهم قالوا في الشركاء (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ) فاعترفوا به ، وأنزلوهم منزلة النواب الظاهرة بصورة من استنابهم ، وما ثم صورة إلا الألوهية فنسبوها إليهم ، ولهذا يقتضي الحق حوائجهم إذا توسلوا بها إليه ، غيرة منه على المقام أن يهتضم ، وإن أخطؤا في النسبة فما أخطؤا في المقام ، ولهذا قال (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها) أي أنتم قلتم إنها آلهة ، وإلا فسموهم ، فلو سموهم لقالوا : هذا حجر وشجر أو ما كان ، فتتميز عندهم بالاسمية ، إذ ما كلّ حجر عبد ولا اتخذ إلها ، ولا كل شجر ، ولا كل جسم منير ، ولا كل حيوان ، فلله الحجة البالغة عليهم بقوله (سَمُّوهُمْ) فكانت الأصنام والأوثان مظاهر له في زعم الكفار ، فأطلقوا عليها اسم الإله ، فما عبدوا إلا الإله ، وهو الذي دل عليه ذلك المظهر ، فقضى حوائجهم وسقاهم ، وعاقبهم إذ لم يحترموا ذلك الجناب الإلهي في الصورة الجمادية ، فهم الأشقياء وإن أصابوا أو لم يعبدوا إلا الله ، فكان قوله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) من الغيرة الإلهية حتى لا يعبد إلا من له هذه الصفة ، فكان من قضائه أنهم اعتقدوا الإله ، وحينئذ عبدوا ما عبدوا ، مع أنهم ما عبدوا في الأرض من الحجارة والنبات والحيوان ، وفي السماء من الكواكب والملائكة ، إلا لاعتقادهم في كل معبود أنه إله ، لا لكونه حجرا ولا شجرة ولا غير ذلك ، وإن أخطؤا في النسبة فما أخطؤا في المعبود ، فعلى الحقيقة ما عبد المشرك إلا الله ، وهي المرتبة التي سماها إلها ، لأنه لو لم يعتقد الألوهة في الشريك ما عبده ، فإنه ما عبد ما عبد إلا بتخيل الألوهة فيه ، ولو لاها ما عبد ، ولذلك قال تعالى (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) فما عبد أحد سوى الله ، حتى المشركون ما عبدوه إلا في الهياكل المسماة