الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً) لما كانت الأخلاق تختلف أحكامها باختلاف المحل الذي ينبغي أن يقابل بها ، احتاج صاحب الخلق إلى علم يكون عليه حتى يصرف في ذلك المحل الخلق الذي يليق به عن أمر الله ، فيكون قربة إلى الله ، فلهذا نزلت الشرائع لتبيّن للناس محال أحكام الأخلاق التي جبل الإنسان عليها ، فقال الله في مثل ذلك (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ) لوجود التأفف في خلقه ، فأبان عن المحل الذي لا ينبغي أن يظهر فيه حكم هذا الخلق ، ثم بيّن المحل الذي ينبغي أن يظهر فيه هذا الخلق فقال (أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) ومن الناحية الفقهية اعتبر أهل القياس هذه الآية دليلا على تحريم ضرب الرجل أباه بالعصا أو بما كان ، فقال أهل القياس : لا نص عندنا في هذه المسئلة ، ولكن لما قال تعالى (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما) قلنا : فإذا ورد النهي عن التأفف وهو قليل ، فالضرب بالعصا أشد ، فكان تنبيها من الشارع بالأدنى على الأعلى ، فلا بد من القياس عليه ، فإن التأفف والضرب بالعصا يجمعهما الأذى ، فقسنا الضرب بالعصا المسكوت عنه على التأفف المنطوق به ، وقلنا نحن : ليس لنا التحكم على الشارع في شيء مما يجوز أن يكلف به ولا التحكم ، ولا سيما في مثل هذا لو لم يرد في نطق الشرع غير هذا لم يلزمنا هنا القياس ولا قلنا به ولا ألحقناه بالتأفيف ، وإنما حكمنا بما ورد وهو قوله في الآية (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) فأجمل الخطاب ، فاستخرجنا من هذا المجمل الحكم في كل ما ليس بإحسان ، والضرب بالعصا ما هو من الإحسان المأمور به من الشرع في معاملتنا لآبائنا ، فما حكمنا إلا بالنص وما احتجنا إلى قياس ، فإن الدين قد كمل ولا تجوز الزيادة فيه كما لم يجز النقص منه ، فمن ضرب أباه بالعصا فما أحسن إليه ، ومن لم يحسن لأبيه فقد عصى ما أمره الله به أن يعامل به أبويه ، ومن رد كلام أبويه وفعل ما لا يرضي أبويه مما هو مباح له تركه فقد عقهما ، وقد ثبت أن عقوق الوالدين من الكبائر.
(وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) (٢٤)
(وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) الجناح عبارة عن اللطف.
(رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً) (٢٥)