السموات والأرض جمع من يعقل ، وهذا التسبيح بوحي ذاتي تقتضيه ذواتهم ، وهو أنهم يسبحون بحمد الله لا يحتاجون في ذلك إلى تكليف ، بل هو لهم مثل النفس للمتنفس ، وذلك لكل عين على الانفراد ، فذكر سبحانه في كل حال ومن كل عين ، فالوجود كله حي ناطق بتعظيم الحق سبحانه ، لكنه يختلف نطقهم باختلاف حقائقهم ، وقوله تعالى (وَمَنْ فِيهِنَّ) ردّ على من يقول بحذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ، كأنه يقول أهل السموات السبع وأهل الأرض ، فنفى هذا الاحتمال بقوله (وَمَنْ فِيهِنَّ) إذ قد ورد مثل ذلك في قوله (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ) وليس هذا كذلك ، وقوله عليهالسلام في أحد [هذا جبل يحبنا ونحبه] وقوله [يشهد للمؤذن مدى صوته من رطب ويابس] وقوله [وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة شفقا من الساعة] وهذه أمور كلها تقتضي العلم وهو مشروط بالحياة ، ولكن الحياة منها ما ظهر للحس ومنها ما لم يظهر ، فما لم يظهر بالعادة ظهر بخرق العادة ، فالكل حي ناطق بتسبيح الله وحمده ، ومعلوم أن ما هنا صوت معه د ولا حرف من الحروف المعلومة عندنا ، ولكنّ كلام كل جنس مما يشاكله ، وعلى حسب ما يليق بنشأته ويعطيه استعداد القبول للروحانية الإلهية السارية في كل موجود ، فالكل حي في نفس الأمر ذو نفس ناطقة ، ولا يمكن أن يكون في العالم صورة لا نفس لها ولا حياة ولا عبادة ذاتية وأمرية ، سواء كانت تلك الصورة مما يحدثها الإنسان من الأشكال أو يحدثها الحيوان ، ومن أحدثها من الخلق عن قصد وعن غير قصد ، فما هو إلا أن تتصور الصورة كيف تصورت وعلى يد من ظهرت ، إلا ويلبسها الله تعالى روحا من أمره ، ويتعرف إليها من حينه فتعرفه منها وتشهده فيها ، هكذا هو الأمر دنيا وآخرة ، فأكد ذلك بقوله (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) وزاد في التوكيد بقوله (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) وأتى بلفظة من في قوله (وَمَنْ فِيهِنَّ) ولم يأت بما ، وأتى في الحشر بما ولم يأت بمن ، فإن سيبويه يقول : إن اسم ما يقع على كل شيء إلا أنه لم يعم الموجودات ، فوجلت قلوب من بقي منها ولم يقع له ذكر في التسبيح ، فجبر الله كسرها وأزال وجلها بقوله عقيب هذا القول (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) وزاد في الثناء عليهم بجهل الناس تسبيحهم بقوله (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) فأخبر تعالى أن كل شيء يسبح بحمده كما هو الأمر عليه في نفسه ، وسد خلل الانكسار بقوله (لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) بحرف الاستدراك وهو قوله (وَلكِنْ) طمعا في أن ينفردوا