العالم مقيد بصورة روح إلهي يلازم تلك الصورة ، به تكون مسبحة لله ، فمن الأرواح ما تكون مدبرة لتلك الصورة لكون الصورة تقبل تدبير الأرواح ، وهي كل صورة تتصف بالحياة الظاهرة والموت ، فإن لم تتصف بالحياة الظاهرة والموت فروحها روح تسبيح لا روح تدبير ، فما من صورة في العالم ـ وما العالم إلا صور ـ إلا وهي مسبحة خالقها بحمد مخصوص ألهمها إياه ، وما من صورة في العالم تفسد إلا وعين فسادها ظهور صورة أخرى في تلك الجواهر ، عينها مسبحة لله تعالى حتى لا يخلو الكون كله عن تسبيح خالقه ، فتسبحه أعيان أجزاء تلك الصورة بما يليق بتلك الصورة ، والأرواح الجزئية متفاضلة بالعلم بالأشياء ، فمنهم من له علم بأشياء كثيرة ، ومنهم من لا يعلم إلا القليل ، ولا أعلم بالله من أرواح الصور التي لا حظ لها في التدبير ، لكون الصورة لا تقبل ذلك وهي أرواح الجماد ، ودونهم في رتبة العلم بالله أرواح النبات ودونهم في العلم بالله أرواح الحيوان ، وكل واحد من هؤلاء مفطور على العلم بالله والمعرفة به ، ولهذا ما لهم همّ إلا التسبيح بحمده تعالى ، ودون هؤلاء في العلم بالله أرواح الإنس ، وأما الملائكة فهم والجمادات مفطورون على العلم بالله لا عقول لهم ولا شهوة ، والحيوان مفطور على العلم بالله وعلى الشهوة ، والإنس والجن مفطورون على الشهوة والمعارف من حيث صورهم لا من حيث أرواحهم ، وجعل الله لهم العقل ليردوا به الشهوة إلى الميزان الشرعي ويدفع عنهم به منازعة الشهوة في غير المحل المشروع لها ، لم يوجد الله لهم العقل لاقتناء العلوم ، والذي أعطاهم الله لاقتناء العلوم إنما هي القوة المفكرة ، فلذلك لم تفطر أرواحهم على المعارف كما فطرت أرواح الملائكة وما عدا الثقلين ، فإذا علمت هذا علمت أن العالم كله ما عدا الإنس والجان مستوفي الكشف لما غاب عن الإحساس البشري ، فلا يشاهد أحد من الإنس والجن ذلك الغيب إلا في وقت خرق العوائد لكرامة يكرمه الله بها ، كما أن كل جماد ونبات وحيوان في العالم كله ، وفي عالم الإنسان والجن وأجسام الملائكة والأفلاك ، وكل صورة يدبرها روح محسوسا كان ذلك التدبير فيمن ظهرت حياته أو غير محسوس فيمن بطنت حياته ـ كأعضاء الإنسان وجلوده وما أشبه ذلك ـ كل هؤلاء في محل كشف الغيوب الإلهية ، المستورة عن الأرواح المدبرة لهذه الأجسام من ملك وإنس وجن لا غير ، فإنها محجوبة عن إدراك هذا الغيب الإلهي ، وهو من الغيوب الإلهية فيجهل كل روح مثل هذا إلا أن يعرفه الله به إلا من ذكرناهم ، فإنهم يعرفونه بالفطرة التي فطرهم