ربنا ، لما لم نشاهد ذلك مشاهدة عين ، فكل ما سوى الله مسبح بحمد الله ، وقد وردت الأخبار بحياة كل رطب ويابس وجماد ونبات وأرض وسماء ، وهنا وقع الخلاف بين أهل الكشف والإيمان وبين من لا يقول بالشرائع أو من يتأول الشرائع على غير ما جاءت له ، فيقولون إنه تسبيح حال ، وأما ما أدرك الحس حياته فلا خلاف في حياته ، وإنما الخلاف في سبب حياته ما هو؟ وفي تسبيحه بحمد ربه لماذا يرجع؟ إذ لا يكون التسبيح إلا من حي عاقل يعقل ذلك ، وما عدا الإنسان والجن من الحيوان ليس بعاقل عند المخالف ، بخلاف ما يعتقده أهل الكشف والإيمان الصحيح ، فيدرك المكاشف الحياة الذاتية التي في الأجسام ، وهي صفة نفسية لها بها تسبح ربها دائما ، سواء كانت أرواحها المدبرة فيها أو لم تكن ، فالحياة الذاتية لكل جوهر فيه غير زائلة ، وبتلك الحياة الذاتية التي أخذ الله بأبصار بعض الخلق عنها ، بها تشهد الجلود يوم القيامة على الناس والألسنة والأيدي والأرجل ، وبها تنطق فخذ الرجل في آخر الزمان فتخبر صاحبها بما فعل أهله ، وبها تنطق الشجرة في آخر الزمان إذا اختفى اليهود حين يطلبهم المسلمون للقتل ، وإنما كانت هذه الحياة في الأشياء ذاتية لأنها عن التجلي الإلهي للموجودات كلها ، لأنه خلقها لعبادته ومعرفته ، ودوام التجلي أعطاها الحياة الذاتية الدائمة ، وبهذه الحياة يسبح كل شيء ، فالعالم كله ـ الذي هو عبارة عن كل ما سوى الله ـ حيوان ناطق ، لكن تختلف أجسامه وأغذيته وحسه ، فهو الظاهر بالصورة الحيوانية وهو الباطن بالحياة الذاتية ، فأنطق الحق العالم كله بالتسبيح بحمده بلسان فصيح ينسب إليه بحسب ما تقتضيه حقيقته ، وكل موجود من الأجسام له لطيفة روحانية إلهية تنظر إليه من حيث صورته لا بد من ذلك ، والتسبيح تنزيه ما هو ثناء بأمر ثبوتي ، لأنه لا يثنى عليه إلا بما هو أهل له ، وما هو له لا يقع فيه المشاركة ، وما أثني عليه إلا بأسمائه ، وما من اسم له سبحانه عندنا معلوم إلا وللعبد التخلق به والاتصاف به على قدر ما ينبغي له ، فلما لم يتمكن في العالم أن يثني عليه بما هو أهله ، جعل الثناء عليه تسبيحا من كل شيء ، ولهذا أضاف الحمد إليه فقال (يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) أي بالثناء الذي يستحقه وهو أهله ، وليس إلا التسبيح ، فإنه سبحانه يقول (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ) والعزة المنع من الوصول إليه بشيء من الثناء عليه الذي لا يكون إلا له (عَمَّا يَصِفُونَ) وكل مثن واصف ، فذكر سبحانه تسبيحه في كل حال ومن كل عين ، فقال (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ