تقتضي المواجهة والخطاب (ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ) والمدعي يسمع ذلك ، وقد علم بقرينة الحال والموطن ذلك المدعي أن عيسى عليهالسلام ليس من أهل الكذب ، وأن إنكاره لما ادعوه صحيح ، علمنا عند ذلك أنه تعالى أراد توبيخهم وتقريرهم. فالاستفهام لعيسى عليهالسلام ، والتقرير والتوبيخ لمن عبده من أمته وجعله إلها ، وقد وقع في الصورة ، صورة الاستفهام ، وهو في الحقيقة توبيخ فإن الاستفهام لا يصح من الله جملة واحدة ، ويصح منه تعالى التقرير لإقامة الحجة والتوبيخ ، فإن الاستفهام على الحقيقة لا يكون إلا ممن لا يعلم ما استفهم عنه. ومثل هذا في صناعة العربية إذا أعربوه في الاصطلاح يعربونه همزة تقرير وإنكار لا استفهام ، وإن قالوا فيه همزة استفهام والمراد به الإنكار ، فلهم في إعراب مثل هذا طريقتان (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) لأنك أنت القائل ، ومن قال أمرا فقد علم ما قال ، وأنت اللسان الذي أتكلم به ، كما أخبرنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن ربه في الخبر الإلهي ، فقال : (كنت لسانه الذي يتكلم به) فجعل هويته عين لسان المتكلم ، ونسب الكلام إلى عبده ، ثم تمم العبد الصالح الجواب بقوله : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) ـ الوجه الأول ـ اعلم أن علم الحق بنا قد يكون معلوما لنا ، وأما علمه بنفسه فلا يعلم لعلو قدسه ، وهو قوله صلىاللهعليهوسلم (وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) أي نفس الحق ـ الوجه الثاني ـ (وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) من القضاء والقدر فإنه لا يعلم ما في نفس الله ـ الوجه الثالث ـ أن تكون النفس هنا نفس عيسى عينه ، فإذا جهل العبد ما هي عليه نفسه من حكم الاستعداد ، فهو بما هو عليه في المستأنف أجهل ، فأضاف عيسى عليهالسلام نفسه إليه من وجه ما هي له ، وأضافها إلى الله من وجه ما هي لله ، فقال : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) أي نفسي هي نفسك وملكك ، فإنك اشتريتها وما هي ملكي ، فأنت أعلم بما جعلت فيها ، فأضاف نفسه إليه من حيث عينها هي له ، ومن حيث وجودها هي لله لا له ، فقال : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي) من حيث عينها (وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) من حيث وجودها ، وهو من حيث ما هي لك. فهذه إضافة تشريف ، كمثل عبد الملك وخديمه وهو أتم في الثناء على الله والتبري مما نسب إليه ثم قال : (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) أي ما غاب عنا من ذلك تعلمه أنت ولا أعلمه أنا ، فإنه ما يكون فيها إلا ما تجعله أنت ، فكيف يستفهم من له الخلق والأمر؟ ولما لم يتصور في حق الله غيب ، علمنا أن الغيب أمر