كان في النهر ، عين ما ظهر إذا لم يكن فيه ، غير أن الفرقان بين الصورتين في ضرب المثل ، أن ماء الأواني وأنوار المنازل إذا فقدت رجعت إلى النور الأصلي والنهر الأصلي ، وكذلك هو في نفس الأمر لو لم تبق آنية ولا يبقى منزل ، لأنه لما أراد الله بقاء هذه الأنوار على ما قبلته من التمييز ، خلق لها أجسادا برزخية تميزت فيها هذه الأرواح عند انتقالها عن هذه الأجسام الدنياوية ، في النوم وبعد الموت ، وخلق لها في الآخرة أجساما طبيعية كما جعل لها في الدنيا ذلك ، غير أن المزاج مختلف ، فنقلها عن جسد البرزخ إلى أجسام نشأة الآخرة ، فتميزت أيضا بحكم صور أجسامها ، ثم لا تزال كذلك أبد الآبدين ، فلا ترجع إلى الحال الأول من الوحدة العينية أبدا. فإذا فارقت الأرواح المواد ، فطائفة تقول : إن الأرواح تتجرد عن المواد تجردا كليا وتعود إلى أصلها كما تعود شعاعات الشمس المتولدة عن الجسم الصقيل إذا صدىء إلى الشمس ، واختلفوا هنا على طريقين : فطائفة قالت : لا تمتاز بعد المفارقة لأنفسها كما لا يمتاز ماء الأوعية التي على شاطىء النهر إذا تكسرت فرجع ماؤها إلى النهر ، فالأجسام تلك الأوعية والماء الذي ملئت به من ذلك النهر كالأرواح من الروح الكل. وقالت طائفة بل تكتسب بمجاورتها الجسم هيئات رديئة وحسنة ، فتمتاز بتلك الهيئات إذا فارقت الأجسام ، كما أن ذلك الماء إذا كان في الأوعية أمور تغيره عن حالته إما في لونه أو رائحته أو طعمه ، فإذا فارق الأوعية صحبه في ذاته ما اكتسبه من الرائحة أو الطعم أو اللون ، وحفظ الله عليها تلك الهيئات المكتسبة ، ووافقوا في ذلك بعض الحكماء. وطائفة قالت : الأرواح المدبرة لا تزال مدبرة في عالم الدنيا ، فإذا انتقلت إلى البرزخ دبرت أجسادا برزخية ، وهي الصورة التي يرى الإنسان نفسه فيها في النوم ، وكذلك هو الموت وهو المعبر عنه بالصور ، ثم تبعث يوم القيامة في الأجسام الطبيعية كما كانت في الدنيا (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) ـ بحث في العلم ـ اعلم أن العلم بالأشياء واحد ، والكثرة في المعلوم لا في ذاته ، فإن الأشعري يرى ويزعم أنه متعدد في ذاته وصفاته ، والحقيقة أبت ما قاله ، فإن العلم لو تعدد أدى أن يدخل في الوجود ما لا يتناهى وهو محال ، فإن المعلومات لا نهاية لها فلو كان لكل معلوم علم لزم ما قلناه ، ومعلوم أن الله يعلم ما لا يتناهى ، وعلمه واحد ، فلا بد أن يكون للعلم عين واحدة ، لأنه لا يتعلق بالمعلوم حتى يكون موجودا ، فإن العلم نسبة لا تتصف بالوجود ولا بالعدم كالأحوال ، وما وصف الله العلم بالقلة إلا العلم الذي