(وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) (٩٤)
اعلم أن الله ما بعث الرسل سدى ، ولو استقلت العقول بأمور سعادتها ما احتاجت إلى الرسل ، وكان وجود الرسل عبثا ، ولكن لما كان من استندنا إليه لا يشبهنا ولا نشبهه ، ولو أشبهنا عينا ما كان استنادنا إليه بأولى من استناده إلينا ، فعلمنا قطعا علما لا يدخله شبهة أنه ليس مثلنا ولا تجمعنا حقيقة واحدة ، فبالضرورة يجهل الإنسان مآله وإلى أين ينتقل ، وما سبب سعادته إن سعد أو شقاوته إن شقي عند هذا الذي استند إليه ، لأنه يجهل علم الله فيه ، ولا يعرف ما يريد به ، ولا لماذا خلقه تعالى ، فافتقر بالضرورة إلى التعريف الإلهي بذلك ، فلو شاء تعالى عرّف كل شخص بأسباب سعادته وأبان له عن الطريق التي ينبغي له أن يسلك عليها ، ولكن ما شاء إلا أن يبعث في كل أمة رسولا من جنسها لا من غيرها ، قدّمه عليها وأمرها باتباعه والدخول في طاعته ، ابتلاء منه لها لإقامة الحجة عليها لما سبق في علمه فيها ، ثم أيده بالبينة والآية على صدقه في رسالته التي جاء بها ، ليقوم له الحجة عليها ، وإنما قلنا من جنسها لأنه كذا وقع الأمر ، قال تعالى : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) أي لو كان الرسول للبشر ملكا لنزل في صورة رجل حتى لا يعرفوا أنه ملك ، فإن الحسد على المرتبة إنما يقع بين الجنس ، فقد علم الإنسان أن البهائم وجميع الحيوانات دونه في المرتبة ، فلو تكلم حيوان ولو كان خنفساء ونطقت وقالت : أنا رسول من الله إليكم ، احذروا من كذا وافعلوا كذا ، لتوفرت الدواعي من العامة على اتباعها والتبرك بها وتعظيمها ، وانقادت لها الملوك ، ولم يطلبوها بآية على صدقها ، وجعلوا نطقها نفس الآية على صدقها ، وإن كان الأمر ليس كذلك ، وإنما لما نال المرتبة غير الجنس لم يقم بهم حسد لغير الجنس ، فأول ابتلاء ابتلى الله به خلقه بعث الرسل إليهم منهم لا من غيرهم ، ومع الدلالات التي نصبها لهم على صدقهم واستيقنوها حملهم سلطان الحسد الغالب عليهم أن يجحدوا ما هم به عالمون موقنون ، ظلما وعلوا.
(قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً) (٩٥)