(ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (١١٧)
ـ الوجه الأول ـ (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) ما زدت على ذلك شيئا ، وإذا قال القائل ما أمر به أن يقوله فقد خرج من العهدة بما بلغ. وقول عيسى عليهالسلام (ما أَمَرْتَنِي بِهِ) ولم يقل به أمرت مع أن الأمر بالتوحيد لم يختص به بل أمر به جميع الأنبياء ، في ذلك تنبيه لنا على سر القدر وأن الأمر أمران : أمر حقيقة ، وأمر شريعة ، فأمر الحقيقة : هو المشار إليه بقوله : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) وهو متوجه إلى جميع الكائنات ، فما من كفر ولا إيمان إلا وهو مأمور به بهذا الاعتبار لأنه لا يكون إلا بأمره ، وأما أمر الشريعة فهو الذي ربط به الثواب والعقاب وقامت به الحجة (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) فمن هذا يفهم السر في قول عيسى عليهالسلام : (أَمَرْتَنِي بِهِ) خصصه بالإضافة إليه تنبيها على أمر الشريعة ، ولم يقل أمرت تنبيها على أمر الحقيقة ـ الوجه الثاني ـ تفسير من مقام المحبوبية : (ما قُلْتُ لَهُمْ) فنفى أولا مشيرا إلى أنه ما هو ، ثم أوجب القول أدبا مع المستفهم فقال : (إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) وأنت المتكلم على لساني ، وأنت لساني ، وأثبت نفسه مأمورا ، وليس سوى عبوديته ، إذ لا يؤمر إلا من يتصور منه الامتثال وإن لم يفعل ، فانظر إلى هذه التنبئة الروحية الإلهية ما ألطفها وأدقها ، (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) فجاء بالاسم «الله» لاختلاف العباد في العبادات واختلاف الشرائع ، لم يخص اسما خاصا دون اسم ، بل جاء بالاسم الجامع للكل «ربي وربكم» ومعلوم أن نسبته إلى موجود ما بالربوبية ليست عين نسبته إلى موجود آخر ، فلذلك فصل بقوله : «ربي وربكم» ، كناية المتكلم ، وكناية المخاطب. (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) أي رقيبا ، ولم يقل على نفسي معهم ، كما قال : (ربي وربكم) (ما دُمْتُ فِيهِمْ) لأن الأنبياء شهداء على أممهم ما داموا فيهم (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي) أي رفعتني إليك وحجبتهم عني وحجبتني عنهم (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) في غير مادتي بل في موادهم ، إذ كنت بصرهم الذي يقتضي المراقبة ، فشهود الإنسان نفسه شهود الحق إياه ، وجعله بالاسم الرقيب لأنه جعل الشهود له ، فأراد أن يفصل بينه وبين