ولكن وقع الأمر الإلهي في العالم بخلاف هذا ، لأن مشيئة الله تعلقت بأن الله لا يجمعهم على الهدى ، للعلم السابق والمشيئة الإلهية ، ليكون الخلاف في الدنيا (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) ما ثم صفة ولا عقوبة أقبح من الجهل ، فإن الجهل مفتاح كل شر ، ولهذا قال تعالى لمحمد صلىاللهعليهوسلم : (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) ولا ينتهي إلا عن معلوم محقق ، فإنه إن لم يعلم الجهل فلا يدري ما نهى عنه ، وخاطبه بمثل هذا الخطاب لحداثة سنه وقوة شبابه ، فقابله بخطاب قوي في النهي عن ذلك ، وقال تعالى لنوح عليهالسلام لما لم يكن له قوة الشباب ، وكان قد شاخ وحصل في العمر الذي لا يزال فيه محترما مرفوقا به في العرف والعادة : (فإني (أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) فرفق في الخطاب حين وعظه ، فإنه لا بد من الفرق بين خطاب الشباب وخطاب الشيوخ ـ إشارة ـ اعلم أن العلم أشرف حلّة ، وأن الجهل أقبح حلية ، وأن جهنم ليست بدار لشيء من الخير ، كما أن الجنة ليست بدار لشيء من الشر ، وأن الإيمان قد يقوم بقلب من لا علم له بما ينبغي لجلال الله ، وأن العلم بجلال الله وما ينبغي له قد يقوم بمن ليس عنده شيء من الإيمان ، فهذا العالم بعدم الإيمان استحق دار الشقاء ، والجاهل المؤمن استحق دار السعادة ، والدرجات في مقابلة الدركات ، فاعلم أن الله تعالى يسلب العالم المستحق دار الشقاء علمه يوم القيامة كأنه ما علمه ، أو لم يعلم شيئا ، فيتعذب بجهله أشد منه من عذابه بحسّه ، وهو أشده عليه ويخلع علمه على هذا الجاهل المؤمن الذي دخل الجنة بإيمانه ، فنال المؤمن بذلك العلم الذي خلع عن هذا الذي استحق الإقامة بدار الشقاء درجة ما يطلبه ذلك العلم ، فيتنعم به نفسا وجسما وفي الكثيب عند الرؤية ، ويعطى ذلك الكافر جهل هذا المؤمن الجاهل ، فينال بذلك الجهل دركات ذلك من النار ، وتلك أشد حسرة تمر عليه ، فإنه يتذكر ما كان عليه من العلم ولا يعلم ذلك الآن ، ويعلم أنّه سلبه ، ويكشف الله عن بصره حتى يرى مرتبة العلم الذي كان عليه في الجنان ، ويرى حلّة علمه على غيره ممن لم يتعب في تحصيله ، ويطلب شيئا منه في نفسه فلا يقدر عليه ، وينظر هذا المؤمن ويطلع على سواء الجحيم فيرى شر جهله على ذلك العالم الذي ليس بمؤمن فيزيد نعيما وفرحا فتحقق قوله تعالى : (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) وقوله تعالى : (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) نفعنا الله بالعلم وجعلنا من أهله ولا يجعلنا ممن يسعى بخيره في حق غيره ويشقى آمين بعزته.