سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٥٤)
(كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) اعلم أن من حقيقته أن يكون مقيدا ، لا يصح أن يكون مطلقا بوجه من الوجوه ما دامت عينه ، فإن التقييد صفة نفسية له ، ومن كان حقيقته أن يكون مطلقا فلا يقبل التقييد جملة واحدة ، فإنه صفته النفسية أن يكون مطلقا ، لكن ليس في قوة المقيد أن يقبل الإطلاق لأن صفته العجز ، وأن يستصحبه الحفظ الإلهي لبقاء عينه ، فالافتقار يلزمه. وللمطلق أن يقيد نفسه إن شاء ، وأن لا يقيدها إن شاء ، فإن ذلك من صفة كونه مطلقا إطلاق مشيئة ، ومن هنا أوجب الحق على نفسه ، ودخل تحت العهد لعبده فقال في الوجوب : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) فلا توجب على الله إلا ما أوجبه على نفسه ، وعلى الحقيقة إنما وجب ذلك على النسبة لا على نفسه ، فإنه يتعالى أن يجب عليه من أجل حدّ الواجب الشرعي ، والنسب هي الأسماء الإلهية فإن لكل اسم دلالتين : دلالة على المسمّى به ، ودلالة على حقيقته التي بها يتميز عن اسم آخر. فلا إله إلا هو ، ولا فاعل سواه ، فيوجب من كونه كذا ، ويجب عليه من كونه كذا ، فالرحمة الواجبة أوجبها تعالى للعالم على نفسه ، وصارت حقا عليه ولكن لا كل العالم بل لعالم مخصوص ، وهو المنعوت في قوله : (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ) فهم قوم خواصّ نعتهم بعمل خاص فقيدها بالجهالة ، فإن لم يجهل لم يدخل في هذا التقييد ، وبقيت الرحمة مطلقة من عين المنة لا الوجوب فهؤلاء يأخذونها من طريق الوجوب لقيام الأسباب التي جعلها الحق موجبة لها بهم ، وما عدا هؤلاء فينتظرونها من باب المنة ، وقال في آية أخرى : (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ) وما عدا هؤلاء المنعوتين فإن الله يرحمهم برحمة الامتنان ، فلا وجوب على الله مطلقا ، فمهما رأيت الوجوب فاعلم أن التقييد يصحبه ، وما كتب الله على نفسه ما كتبه إلا لمن قام بحق النيابة عنه فيما استنابه وليس إلا المتقين ، وما عدا هؤلاء فهم أهل المنن ، فنالوا أغراضهم على الاستيفاء ، ثم إن الله امتن عليهم بعد ذلك بالمغفرة والرحمة التي عم حكمها ، وهنا أوجب الحق الرحمة على نفسه لمن تاب وأصلح من العاملين السوء بجهالة.