ولم يتكثر في نفسه بها ، فعلمنا أنها غائبة العين. ولما فتح الله بها عالم الأجسام الطبيعية باجتماعها بعد ما كانت متفرقة في الغيب ، معلومة الافتراق في العلم ، إذ لو كانت مجتمعة لذاتها لكان وجود عالم الأجسام أزلا لنفسه لا لله ، وما ثم موجود ـ ليس هو الله ـ إلا عن الله. وما ثم واجب الوجود لذاته إلا الله ، وما سواه فموجود به لا لذاته ، وبالمشيئة ظهر أثر الطبيعة وهي غيب فالمشيئة مفتاح ذلك الغيب ، والمشيئة نسبة إلهية لا عين لها فالمفتاح غيب ، فالغيب هو النور الساطع العام الذي به ظهر الوجود كله ، وما له في عينه ظهور ، فهو الخزانة العامة التي خازنها منها ، وقد تكون مفاتح الغيب هي استعدادات القوابل ، وهي غير مكتسبة بل منحة إلهية ، فلهذا لا يعلمها إلا الله ولا تعلم إلا بإعلام الله ، وعالم الغيب قد يظهر على غيبه من يرتضيه من رسله ، وهو غيب الوجود أي ما هو في الوجود ، ومغيب عن بعض الأبصار والبصائر ، وهذا الغيب هنا ما ليس بموجود ، فمفتاح ذلك الغيب لا يعلمه إلا الله ، فلا يعلم ما هو مفتاح غيب خاص في مفرد مفرد من الغيوب ، فإذا حصل الاستعداد من الله تعالى حصل المفتاح وبقي الفتح حتى يقع التعليم ، فإنه هو الفتاح العليم فانفرد سبحانه بعلم مفاتح هذا الغيب ، ونفى العلم عن كل ما سواه بها ، فالممكنات كلها وأعني بكلها ميزها عن المحال ولاواجب ، لا أن أعيانها يحصرها الكل ، ذلك محال هي في ظلمة الغيب ، فلا يعرف لها حالة وجود ، ولكل ممكن منها مفتاح ، لا يعلمه إلا الله ، فلا موجد إلا هو ، خالق كل شيء وموجده ، وما من ممكن يظهره الله إلا وله ظل ممدود في الغيب ، لا يمكن خروجه. فظاهر الإنسان ما امتد من الإنسان فظهر ، وباطنه ما لم يفارق الغيب فلا يعلم باطن الإنسان أبدا. (وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها) وهي ما تسقط إلا من خشية الله كما قال (وإن منها لما يهبط من خشية الله) (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ) أمهات الطبيعة أربعة : الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ، وقد جعل الله اثنين منها أصلا في وجود الاثنين الآخرين ، فانفعلت اليبوسة عن الحرارة ، والرطوبة عن البرودة ، فالرطوبة واليبوسة موجودتان عن سببين هما الحرارة والبرودة ، ولهذا ذكر الله في قوله تعالى : (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ) لأن المسبب يلزم من كونه مسببا وجود السبب ، أو منفعلا وجود الفاعل كيف شئت فقل ، ولا يلزم من وجود السبب وجود المسبب فإن المنفعل يطلب الفاعل بذاته ، فإنه منفعل لذاته ولو لم يكن منفعلا لذاته ما قبل الانفعال والأثر