البصيرة ، كما أن عالم الشهادة يدرك بعين البصر ، وكما أن البصر لا يدرك عالم الشهادة ما لم يرتفع عنه حجاب الظلم أو ما أشبه من الموانع ، فإذا ارتفعت الموانع وانبسطت الأنوار على المحسوسات أدرك البصر المبصرات ، فإدراكها مقرون بنور البصر ونور السراج وأشباهها من الأنوار ، كذلك عين البصيرة حجابها الريون ، والشهوات ، وملاحظة الأغيار ، إلى مثل هذه من الحجب ، فتحول بينها وبين إدراك الملكوت أعني عالم الغيب ، فإذا عمد الإنسان إلى مرآة قلبه وجلاها بأنواع الرياضات والمجاهدات حتى زال عنها كل حجاب ، واجتمع نورها مع النور الذي ينبسط على عالم الغيب ، وهو النور الذي يتراءى به أهل الملكوت ، وهو بمنزلة الشمس في المحسوس ، اجتمع عند ذلك نور عين البصيرة ، مع نور التمييز ، فكشف المغيبات على ما هي عليه ، غير أن بينهما لطيفة معنى ، وذلك أن الحس يحجبه الجدار ، والبعد المفرط ، والقرب المفرط ، والأجسام الكثيفة الحائلة بينه وبين من يريد إدراكه ، وهذا لقصوره عادة ، وقد تنخرق لنبي أو ولي كقول النبي صلىاللهعليهوسلم : إني أراكم من وراء ظهري ، وفي الأولياء ابتداء المكاشفات لهم في أول سلوكهم ، فإن المريد أول ما يكشف له عن المحسوسات فيرى رجلا مقبلا أو على حالة ما وبينهما البعد المفرط والأجسام الكثيفة ، بحيث أن يراه بمكة أو يرى الكعبة وهو بأقصى المغرب ، وهذا كثير عند المريدين في أول أحوالهم ، وأما عالم البصيرة فلا إذ عالم الغيب ليس بينه وبين عين البصيرة مسافة ولا بعد ولا قرب مفرط ، وحجابه إنما هو الران والقفل والكن وقد ارتفعت بالمجاهدات ، فلاحت أعلام الغيوب ، لكن ثم أمر تدركه وهو إن انجلت عين البصيرة كما ذكرناه فإن ثم حجابا آخر إلهيا ، وهو أن النور الذي ينبسط من حضرة الجود على المغيبات في الحضرات الوجودية ليس يعمها إلا على قدر ما يريد الله تعالى أن يكشف لك منها ، مع أنك في غاية الصفاء والجلاء ، وذلك هو مقام الوحي دليلنا على ذلك قوله تعالى : «قل (ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ) مع غاية الصفاء النبوي ، فكيف بالولي الذي ما فتح له من الطريق خرت إبرة؟ فهذا هو قدر ما يكشف له من عالم الغيب ، فيرى تأثيره في عالم الشهادة فيتكلم به على ذلك الحد ، فيقول : يكون كذا ولا يكون كذا وعاقبة أمر ما إلى كذا على قدر الكشف. وهذا الحجاب الإلهي لا يمكن رفعه عقلا ولو بلغ المرء أعلى الغايات ، بدليل أن هذا الحجاب إنما هو العلم الأزلي المتعلق بمعلومات غير