(فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى) (١٢٠)
فصدقه وهو الكذوب ، فتلطّف إبليس في الإغواء تلطف المستدرج في الاستدراج ، والماكر في المكر ، والخادع في الخداع ، فكان لآدم بعد المؤاخذة ما أعطته خاصية تلك الشجرة لمن أكل من ثمرها من الخلد والملك الذي لا يبلى.
(فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) (١٢١)
اعلم أن الأمر الإلهي لا يخالف الإرادة ، فإنها داخلة في حدّه وحقيقته ، وإنما وقع الالتباس من تسميتهم صيغة الأمر أمرا وليست بأمر ، والصيغة مرادة بلا شك ، فأوامر الحق إذا وردت على ألسنة المبلغين فهي صيغ الأوامر لا الأوامر فتعصى ، وقد يأمر الآمر بما لا يريد وقوع المأمور به ، فما عصى أحد قط أمر الله ، وهو قوله إذا أراد شيئا أن يقول له : كن فيكون ؛ وبهذا علمنا أن النهي الذي خوطب به آدم عن قرب الشجرة إنما كان بصيغة لغة الملك الذي أوحى إليه به ، ولما علم إبليس أن آدم محفوظ من الله ، ورأى الله قد نهاه عن قرب الشجرة لا قرب الثمرة ، جاء بصورة الأكل لا بصورة القرب ، فإنه علم أنه لا يفعل لنهي ربه إياه عن قرب الشجرة ، فأتاه بثمرها فأكل آدم وزوجته حواء ، وصدّقا إبليس وهو الكذوب في قوله (هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى) ولما كان آدم قد نهي ولم يؤمر أمر إيجاب ، وكان حاملا للمخالف من ولده في ظهره والطائع ، فأوقع المخالفة عن حركة المخالف ، فلما رماه من صلبه ، ما بلغنا أن آدم عليهالسلام عصى ربه بعد ذلك أبدا ، وأفرد بالمعصية دون أهله في قوله (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ) ـ الوجه الأول ـ والنهي وقع عليهما والفعل وقع عنهما ، لأنها بعض من كلّه ، فهي جزء منه ، فكأنها ما ثمّ إلا هو ، فأهدرت في اللفظ ولم تذكر ، وذكر آدم (فَغَوى) ومن غوى هوى ، ألا تراه هبط ، وفي يديه سقط ، فاستدرك الغلط حين هبط ، فتلقى من ربه ما تلقاه من الكلمات فتاب ، ففاز بحسن المآب ، لأنه ما قصد انتهاك الحرمة ، ولا الخروج من النور إلى الظلمة ـ الوجه الثاني ـ (وَعَصى