أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها) الآية ـ فإذا اجتمع في مجلس أهل الله من هو فقير ذليل منكسر وغني بماله ذو جاه في الدنيا ، أظهر الداعي إلى الله القبول والإقبال على الفقير أكثر من إظهاره على الغني ذي الجاه ، لأنه المقصود بالأدب الذي أدب الله تعالى به نبيه صلىاللهعليهوسلم ، غير أن صاحب هذه الصفة يحتاج إلى ميزان الحق في ذلك ، فإن غفل عنه كان الخطأ أسرع إليه من كل شيء ، وصورة الوزن فيه أن لا يرى في نفسه شفوفا عليه ، ولا يخاطب الغني ولا ذا الجاه بصفة قهر تذله ، فإنه لا يذل تحتها بل ينفر ويزيد عظمة ، وإذا رأى من الأغنياء بالعرض ـ من جاه أو مال ـ الفقر والذلة نزولا عن هاتين المرتبتين ، وجب على أهل الله الإقبال عليهم ، قال تعالى : ـ
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) (٣٠)
الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه أو تعلم أنه يراك ، فهذا هو الحد الضابط للإحسان في العمل ، وما عدا هذا فهو سوء عمل ، إما ببذل الوسع في الاجتهاد فيكون وفّى الأمر حقه ، ولكنه أخطأ وهو صاحب عمل حسن ، فيكون رؤية سوء العمل حسنا بعد الاجتهاد ، وإما أن يكون في المشيئة فلا يدري بما يختم له إذا لم يكن عن استيفاء الاجتهاد بقدر الوسع ورآه حسنا عن غير اجتهاد ، فقوله تعالى (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) أحسن عملا هنا من الإحسان ، وهو الحضور مع الله تعالى في ذلك العمل ، وهو قول رسول الله صلىاللهعليهوسلم في الإحسان [أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك] وذلك الحضور مع الله هو حياة ذلك العمل ، وبه سمّي عبادة ، فالإحسان في العبادة كالروح في الصور يحييها ، وإذا أحياها لم تزل تستغفر لصاحبها ، ولها البقاء الدائم ، فلا يزال مغفورا له ، فإن الله صادق ، وقد أخبر أنه لا يضيع أجر من أحسن عملا ، وأحسن العمل ما عمل بشرطه وفي زمانه وتمام خلقه وكمال رتبته ، وأصحاب هذا المقام ـ مقام الإحسان ـ يشرعون في العمل على الحجاب (اعبد الله كأنك تراه) فإذا رأوا المعمول له رأوا العمل صادرا منه فيهم ما هم العاملين ، فيخافون من مزلة القدم فيما سماه من أفعاله حسنا وسيئا. ـ تحقيق ـ إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا ، كيف يضيعه وهو الذي شرعه ووعد عليه بالأجر ، ووعده صدق؟.