أقرب حالا من عبادة من لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنهم شيئا ، وهذا قول إبراهيم لأبيه ، وهو الذي قال فيه تعالى : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) وأبوه من قومه فقول الخليل عليهالسلام (فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) من الحجة التي أعطاه الله ، ومنها.
(قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (٦٦) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٦٧)
هذه الآية تدل على أن إبراهيم عليهالسلام نبه قومه على أن العلم بالله من كونه إلها من مدركات العقول ، فما أحالهم إلا على أمر يصح منه أن ينظر فيعلم بنظره ما هو الأمر عليه.
(قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) (٦٨)
ومن فتوة إبراهيم عليهالسلام أن باع نفسه في حق أحدية خالقه لا في حق خالقه ، لأن الشريك ما ينفي وجود الخالق ، وإنما يتوجه على نفي الأحدية.
(قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) (٦٩)
الأعيان لا تنقلب ، والحقائق لا تتبدل ، فالنار تحرق بحقيقتها لا بصورتها ، فالخطاب للصورة وهي الجمرات ، وأجرام الجمرات محرقة بالنار ، فلما قامت بها النار سميت نارا ، فتقبل البرد كما قبلت الحرارة ، فخاطبها الحق بقوله : (يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) وهو أجره الذي آتاه الله في الدنيا ، فنجاه الله من النار وجعلها عليه بردا وسلاما ، وهي في الظاهر نار ولكن ما أثرت إحراقا في جسم إبراهيم ولا وجد ألما لها ، فليس العجب من ورد في بستان ، وإنما العجب من ورد في قعر النيران ، إبراهيم الخليل عليهالسلام في وسط النار يتنعم ويلتذ ، ولو لم يكن عليهالسلام إلا في حمايتها إياه من الوصول إليه ، فالأعداء يرونها في أعينهم نارا تأجج ، وهو يجدها بأمر الله إياها بردا وسلاما عليه ، فأعداؤه ينظرون إليه ولا يقدرون على الهجوم عليه.