به عن الشكوى إلى الله في رفع ما نزل به وصبر مثل هذا الصبر فقد قاوم القهر الإلهي ، والشكوى إلى الله أعلى منه وأتم ، ولهذا قلنا إن الدعاء لا يقدح ولا يقتضي المنازعة ، بل هو أعلى وأثبت في العبودة من تركه ، وأما الرضا والتسليم فهما نزاع خفي لا يشعر به إلا أهل الله ، لذلك رفع أيوب عليهالسلام شكواه إلى الله لا إلى غيره ، بل يجب عليه ذلك ، لما في الصبر إن لم يشك إلى الله من مقاومة القهر الإلهي ، وهو سوء أدب مع الله ، والأنبياء عليهمالسلام أهل أدب ، وهم على علم من الله ، فاستجاب له ربه وقال :
(فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ) (٨٤)
فأثبت بقوله تعالى : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ) أن دعاه كان في رفع البلاء ، فكشف ما به من ضر وشهد له بالصبر ، فلو كان الدعاء إلى الله في رفع الضر ورفع البلاء يناقض الصبر المشروع المطلوب لم يثن الله على أيوب عليهالسلام بالصبر ، وقد أثنى عليه به ، بل من سوء الأدب مع الله أن لا يسأل العبد رفع البلاء عنه ، لأن فيه رائحة من مقاومة القهر الإلهي بما يجده من الصبر وقوته ، ومن الأدب الإلهي الذي علمه الله أنبياءه ورسله ، إن كنت صاحب غرض وتحس بمرض وألم فاحبس نفسك عن الشكوى لغير من آلمك بحكمه عليك ، فإنه ما آلمك وحكم عليك بخلاف غرضك ـ وغرضك من جعل حكمه فيك ـ إلا لتسأله في رفع ذلك عنك ، بما جعل فيك من الغرض الذي بسببه تألمت ، كما فعل بأيوب عليهالسلام ، فمن لم يشك إلى الله مع الإحساس بالبلاء وعدم موافقة الغرض فقد قاوم القهر الإلهي ، فالأدب كل الأدب في الشكوى إلى الله في رفعه لا إلى غيره ، ويبقى عليه اسم الصبر كما قال تعالى في أيوب عليهالسلام : (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً) في وقت الاضطراب والركون إلى الأسباب ، فلم يضطرب ولا ركن إلى شيء غير الله إلا إلينا لا إلى سبب من الأسباب ، فإنه لا بد طبعا عند الإحساس من الاضطراب وتغير المزاج. ـ إشارة ـ لذلك قال بعضهم : الصبر مقاومة ، وهو سوء أدب في حق الكامل.
(وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (٨٥) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي