تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣) ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (٧٤)
المعرفة تتعلق بأمرين من كل معروف ، الأمر الواحد الحق والآخر الحقيقة ، فالحق من مدارك العقول من جهة الدليل ، والحقيقة من مدارك الكشف والمشاهدة ، وليس ثم مدرك ثالث البتة ، فلهذا قال حارثة أنا مؤمن حقا ، فأتى بالمدرك الأول فكان عنده مؤيدا بالمدرك الثاني ، ولكن سكت فقال له النبي عليهالسلام فما حقيقة إيمانك ، يرى إن كان عنده المدرك الثاني ، فأجابه بالاستشراف والاطلاع والكشف ، فقال له النبي عليهالسلام عرفت فالزم ، فلا تصح المعرفة للشيء على الكمال إلا بهاتين الحقيقتين الحق والحقيقة ، فإذا أخبر الله تعالى بأنا عاجزون عن إدراك حق قدره ، فكيف لنا بحقيقة قدره ، وليس القدر هنا إلا المعرفة بما يقتضيه مقام الألوهية من التعظيم ، ونحن قد عجزنا عنه فأحرى أن نعجز عن معرفة ذاته جلت وتعالت علوا كبيرا ، فلما عاين المحققون هذا الإجلال وقطعوا أنهم لا يقدرون قدره مع ما تقرر عندهم من التعظيم ، وقدر ما هم بالتقصير ، فعرفوا أنه ليس في وسع المحدثات أن تقدر قدر القديم ، لأن ذلك موقوف على ضرب من المناسبة الحقيقية ، ولا مناسبة في مفاوز الحيرة لهذا الجلال ، وما قدروا الله حق قدره فيما كيّف به نفسه مما ذكره في كتابه وعلى لسان رسوله من صفاته ، فالحق ذكر عن نفسه أن العبد يتحرك بحركة يضحك بها ربه ، ويتعجب منها ربه وتبشبش له من أجلها ربه ، ويفرح بها ربه ويرضى بها ربه ويسخط بها ربه ، وهذا حكم أثبته الحق ونفاه دليل العقل ، فعرفنا أن العقل قاصر عما ينبغي لله عزوجل ، وأنه لو ألزم نفسه الإنصاف للزم حكم الإيمان والتلقي ، وجعل النظر والاستدلال في الموضع الذي جعله الله ، ولا يعدل به عن طريقه الذي جعله الله له ، وهو الطريق الموصل إلى كونه إلها واحدا لا شريك له في ألوهيته ، ولا يتعرض لها لما هو عليه في نفسه ، فالحق قد أخبر عن نفسه أنه يجيب عبده إذا سأله ، ويرضى عنه إذا أرضاه ، ويفرح بتوبة عبده إذا تاب ، فانظر يا عقل لمن تنازع ، فالحق أعلم بنفسه ، فهو الذي نعت نفسه بهذا كله ،