(إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٢٣) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٢٤)
فما منك جزء إلا وهو عالم ناطق ، فلا يحجبنك أخذ سمعك عن نطقه ، فلا تقل يوما : أنا وحدي ، ما أنت وحدك ولكنك في كثرة منك ، والجسم لا يأمر النفس ، إلا بخير ، ولهذا تشهد على النفس يوم القيامة جلود الجسم وجميع جوارحه ، وفي هذه الآية الإخبار بعلم جوارح الإنسان بالأشياء فإن العمل للجوارح والنية للنفس ، والجوارح لا تدري هل هذا العمل مشروع أم غير مشروع ، ولذلك إذا شهدت الجوارح والجلود بما وقع منها من الأعمال على النفس المدبرة لها ، ما تشهد بوقوع معصية ولا طاعة وإنما شهادتها بما عملته ، والله يعلم حكمه في ذلك العمل ، ولهذا إذا كان يوم القيامة (تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) يعني بها ، ولم يشهدوا بكون ذلك العمل طاعة ولا معصية ، فإن مرتبتهم لا تقتضي ذلك ، وما سمي ذلك النطق شهادة إلا تجوزا ، فالجوارح تشهد بالفعل ما تشهد بالحكم ، فإنها ما تفرق بين الطاعة المشروعة والمعصية ، فإنها مطيعة بالذات لا عن أمر ، فبقي الحكم لله تعالى فيأخذه ابتداء من غير نطق الجوارح ، فما وقعت المخالفة من الجوارح إلا من حركة المريد تحريكها ، فهي مجبورة طائعة بالذات ، شاهد عدل على محرّكها ، فإنه ما من جارحة إلا وهي مسبحة لله مقدسة لجلاله ، غير عالمة بما تصرفها فيه نفسها المدبرة لها ، المكلّفة التي كلّفها الله تعالى عبادته والوقوف بهذه الجوارح وبعالم ظاهره عند ما حد له ، فلو علمت الجوارح ما تعلمه النفس من تعيين ما هو معصية وما هو طاعة ما وافقت على مخالفة أصلا ، فإنها ما تعاين شيئا من الموجودات إلا مسبحا لله مقدسا لجلاله ، غير أنها قد أعطيت من الحفظ القوة العظيمة ، فلا تصرفها النفس في أمر إلا وتحتفظ على ذلك الأمر وتعلمه ، والنفس تعلم أن ذلك طاعة ومعصية ، وذلك يدل على أن الجوارح ارتبطت بالنفس الناطقة ارتباط الملك بمالكه ، فلا تشهد إلا بالأجنبية ، إذ لا بد من شهود عليه ، وإن لم يكن على ما قلناه وكان عين الشاهد عين المشهود عليه ، فهو إقرار لا شهادة ،