فتبين لك إن كنت عاقلا. من يحمل الألم منك ومن يحس به ممن لا يحمله ولا يحسّ به ، ولو كانت الجوارح تتألم لأنكرت كما تنكر النفس ، وما كانت تشهد عليه ، فقد علمت يا أخي من يعذّب منك ومن يتنعم وما أنت سواك ، فلا تجعل رعيتك تشهد عليك فتبوء بالخسران ، وقد ولاك الله الملك فيقال لك : ما فعلت برعيتك؟ ألا ترى الوالي الجائر إذا أخذه الملك وعذبه عند استغاثة رعيته به كيف تفرح الرعية بالانتقام من واليها؟ كذلك الجوارح يكشف لك يوم القيامة عن فرحها ونعيمها بما تراه في النفس التي كانت تدبرها في ولايتها عليها ، لأن حرمة الله عظيمة عند الجوارح ، قال تعالى : (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ).
(يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) (٢٥)
(الْحَقُّ الْمُبِينُ) أي الظاهر ، فمن شهدت عليه جوارحه ، فما تعظم فضيحته من حيث شهادة جوارحه عليه ، وإنما تعظم فضيحته من حيث عجزه وجهله بالذّب عن نفسه.
(الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (٢٦)
جعل الله الطيبين للطيبات والطيبات للطيبين من كونه طيبا ، فالطيب من يميز الخبيث من الطيب ، وجعل تعالى الخبيثين للخبيثات والخبيثات للخبيثين من كونه حكيما ، فإنه هو الجاعل للأشياء والمميز بين الأشياء والأحكام ، واعلم وفقك الله أن الحلال طيب لا ينتج إلا طيبا ، قال تعالى : (الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ) ففي هذا من الاعتبار الصوفي والنظر الإلهي بعض ما نذكره الآن ، وذلك أن من كان عند الله خبيثا فلا يغذيه إلا بالخبيثات من المطاعم ، ولا تصدر الأفعال الخبيثات إلا من الخبيثين ، وكذلك الطيبات من المطاعم وهي الحلال ، لا يغذي بها الله تعالى إلا من كان عنده من الطيبين ، وكذلك الطيبون عند الله تعالى لا تصدر منهم إلا طيبات الأفعال ، أو تلك المطاعم بأعيانها إنما أهّلت الخبيثات التى هي الحرام للخبيثين كما أهلوا لها ، وكذلك