إلى الله ، لما تقطعت به الأسباب ، وتغلقت دون مطلوبه الأبواب ، رجع إلى من بيده ملكوت كل شيء ، وهو كان المطلوب به من الله ، هذا فعله مع أحباه ، يردهم إليه اضطرارا واختيارا ، كذلك أرواح المحبين يحسبونها قائمة بحقوق الله التي فرضها عليها ، وأنها المتصرفة عن أمر الله ، محبة لله ، وشوقا إلى مرضاته ، ليراها حيث أمرها ، فإذا كشف لها الغطاء واحتد بصرها ، وجدت نفسها كالسراب في شكل الماء ، فلم تر قائما بحقوق الله إلا خالق الأفعال ، وهو الله تعالى ، فوجدت الله عين ما تخيلت أنه عينها ، فذهبت عينها عنها ، وبقي المشهود الحق بعين الحق ، كما فني السراب عن السراب ، والسراب مشهود لنفسه وليس بماء ، كذلك الروح موجود في نفسه وليس بفاعل ـ إشارة لا تفسير ـ إذا جئت إلى السراب لتجده كما أعطاك النظر لم تجده في شيئيته ما أعطاك النظر ، كذلك معرفتك بالله مثل معرفتك بالسراب أنه ماء ، فإذا به ليس ماء وتراه العين ماء ، فكذلك إذا قلت عرفت الله وتحققت بالمعرفة عرفت أنك ما عرفت الله ، فالعجز عن معرفته هو المعرفة به ، فإن المتعطش إلى العلم بالله يأخذ في النظر في العلم به ، فيفيده تقييد تنزيه أو تشبيه ، فإذا كشف الغطاء وهو حال وصول الظمآن إلى السراب لم يجده كما قيده فأنكره ، ووجد الله عنده غير مقيد بذلك التقييد الخاص ، بل له الإطلاق في التقييد ، فوفاه حسابه أي تقديره ، فكأنه أراد صاحب هذا الحال أن يخرج الحق من التقييد فقال له الحق بقوله : (فَوَفَّاهُ حِسابَهُ) لا يحصل لك في هذا المشهد إلا العلم بي أني مطلق عن التقييد.
(أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) (٤٠)
(ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ) ظلمة الجو تقترن معها ظلمة البحر ، تقترن معها ظلمة الموج ، تقترن معها ظلمة تراكم الموج ، تقترن معها ظلمة السحاب التي تحجب أنوار الكواكب ، (إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها) فوصفه بأنه ما رآها ولا قارب رؤيتها ، فإنه نفى القرب بدخول لم على يكاد ، وهو حرف نفي وجزم يدخل على الأفعال المضارعة للأسماء