وحديثهما مشهور عندهم بالحجاز ، فلما سمع هذه الآية ارتعدت فرائصه ، واصفر لونه ، وضرط من شدة ما سمع ومعرفته بذلك ، وقال : هذا كلام جبار ؛ فما زادهم نفورا إلا اقتران التكليف بالاسم الرحمن لجهلهم به ، ولو علم هذا الجاهل أن أمره تعالى بالسجود للرحمن لا يناقض التكليف ، وإنما يناقض المؤاخذة ويزيد في الجزاء بالحسنى لبادر إلى ذلك ، كما بادر المؤمن ، كما أن الكفار ما علموا في الغيب إلا إلها واحدا ، قال الله لنبيه صلىاللهعليهوسلم (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) فتعجبوا من ذلك غاية العجب ، لأنهم تخيلوا أن مسمى الرحمن ليس هو الله ، وأن لكل واحد الأسماء الحسنى ، وذلك لمّا أعمى الله بصائرهم ، وكثّف أغطيتهم ، فلم يعقلوا عن الله ما أراد بما أنزله ـ وهذه السجدة للمؤمن تسمى سجدة الامتياز فإنه يسجدها عند ما يتلو ليمتاز عن الكافر المنكر لاسمه الرحمن ، ويقع الامتياز بين الاسم الرحمن وبين العارفين به يوم القيامة بالسجود الذي كان منهم عند التلاوة.
(تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (٦١) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (٦٢) وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) (٦٣)
اعلم أن لله عبادا من حيث اسمه الرحمن ، وهو قوله تعالى (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) وذلك من أثر الوقار ، الذي هو من الوقر ، وهو الثقل ، وإذا حصل الثقل ضعف الإسراع والحركة ، فسمى ذلك السكون وقارا أي سكون عن ثقل عارض لا عن مزاج طبيعي ، فإن السكون الكائن عن الأمر الذي يورث الهيبة والعظمة في نفس الشخص يسمى وقارا وسكينة ، والسكون الطبيعي الذي يكون في الإنسان من مزاجه لغلبة البرد والرطوبة على الحرارة واليبس لا يسمى وقارا ، إنما الوقار نتيجة التعظيم والعظمة ، وهذا لا يكون إلا إذا تجلى لهم الحق في جلال الجمال (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ) الجاهل من أشرك بالله ، خفيا كان الشرك أو جليا (قالُوا سَلاماً) فلو أجابوهم لا نتظموا معهم في سلك الجهالة ، فإن كل إنسان ما يكلم إنسانا بأمر ما من الأمور ابتداء أو مجيبا ، حتى ينصبغ