فإن الله جعل لكل موطن حكما لا يكون لغيره ، وظهر في القلب أحدي العين ، فجسّده الخيال وقسّمه ، فأخذه أللسان فصيره ذا حرف وصوت ، وقيد به سمع الآذان ، ليترجم عن القرآن ، بما علمه الحق من البيان ، الذي لم يقبله إلا الإنسان ، فأبان أنه مترجم عن الله لا عن الرحمن ، لما فيه من الرحمة والقهر والسلطان ، فقال تعالى (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) فتلاه رسول الله صلىاللهعليهوسلم بلسانه أصواتا وحروفا ، سمعها الأعرابي بسمع أذنه في حال ترجمته ، فالكلام لله بلا شك ، والترجمة للمتكلم به ، ولا يزال القرآن ينزل على قلوب أمة محمد صلىاللهعليهوسلم إلى يوم القيامة ، فنزوله في القلوب جديد لا يبلى ، فهو الوحي الدائم ، فلا يزال كلام الله من حين نزوله يتلى حروفا وأصواتا إلى أن يرفع من الصدور ، ويمحى من المصاحف ، فلا يبقى مترجم يقبل نزول القرآن عليه فلا يبقى الإنسان المخلوق على الصورة (لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) أي المعلمين ، فذكر الإنذار ، وهكذا في قوله (يلقي الروح على من يشاء من عباده لينذر) من الزجر حيث ساق الإعلام بلفظة الإنذار (١) ، فهو إعلام بزجر ، وهو البشير النذير ، والبشارة لا تكون إلا عن إعلام ، فغلب في الإنزال الروحاني باب الزجر والخوف ، لما قام بالنفوس من الطمأنينة الموجبة إرسال الرسل ، ليعلموهم أنهم عن الدنيا إلى الآخرة منقلبون ، وإلى الله من نفوسهم راجعون.
(بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (١٩٥)
ـ إشارة ـ انظر في القرآن بما أنزل على محمد صلىاللهعليهوسلم ، لا تنظر فيه بما أنزل على العرب ، فتخيب عن إدراك معانيه ، فإنه نزل بلسان رسول الله صلىاللهعليهوسلم لسان عربي مبين ، فإذا تكلمت في القرآن بما هو به محمد صلىاللهعليهوسلم متكلم ، نزلت عن ذلك الفهم إلى فهم السامع من النبي صلىاللهعليهوسلم ، فإن الخطاب على قدر السامع ، لا على قدر المتكلم ، وليس سمع النبي صلىاللهعليهوسلم ، وفهمه فيه فهم السامع من أمته فيه إذا تلاه عليه ـ الفرق بين نزول القرآن على قلب النبي ونزوله على قلب الولي ـ من جاءه القرآن عن ظهر غيب أعطي الرؤية من خلفه كما أعطيها من أمامه ، إذ كان القرآن لا ينزل إلا مواجهة ، فهو للنبي صلىاللهعليهوسلم من وجهين : وجه معتاد ، ووجه غير معتاد ، وهو للوارث من وجه غير معتاد ، فسمي ظهرا بحكم الأصل ، وهو وجه بحكم الفرع ، والذي ينزل القرآن على قلبه ينزل بالفهم ، فيعرف ما يقرأ وإن كان
__________________
(١) في الأصل الإنزال.