هذا هو التوحيد الثالث والعشرون في القرآن ، وهو توحيد الاختيار (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ) وهو من توحيد الهوية ، فإن الدليل يعطي أن لا يكون في العالم تفاضل ، ولا مختار يفضل عند الله غيره من حيث نسبة العالم إلى الله ، فإن نسبته واحدة ، ورأينا الأمر على غير هذا خرج ، وفي القرآن كثير من تفضيل كل جنس بعضه على بعض ، حتى القرآن وهو كلام الله يفضل على سائر الكتب المنزلة وهي كلام الله ، والقرآن نفسه يفضل بعضه على بعض مع نسبته إلى الله أنه كلامه بلا شك ، فآية الكرسي سيدة آي القرآن ، وهي قرآن ، فعلمنا من هذا أن الحكمة التي يقتضيها النظر العقلي ليست بصحيحة ، وأن حكمة الله في الأمور هي الحكمة الصحيحة التي لا تعقل ، وإن كانت لا تعلم فما تجهل ، لكن لا تعيّن بمجرد فكر ولا نظر ، فلما رأينا التفاضل والاختيار وقع في العالم حتى في الأذكار الإلهية المشروعة كما ذكرنا ، علمنا أن ثمّ أمرا معقولا ما هو عين أعيان الكائنات ، فإذا بذلك عين المشيئة ، فيها ظهر هذا التفضيل في الواحد ، والتفضيل في المتساوي ، والواحد لا يتصف بالتفضيل ، والمتساوي لا ينعت بالتفضيل ، فعلمنا أن سر الله مجهول لا يعلمه إلا هو ، فوجدناه توحيد الاختيار في حضرة السر (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى) وهو حمد الإجمال (وَالْآخِرَةِ) وهو حمد التفصيل ، فتميزت المحامد في العين الواحدة فكان حمدها عينها (وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي الحكم وهو القضاء ، فالضمير في (إِلَيْهِ) يعود على الحكم ، فإنه أقرب مذكور ، فلا يعود على الأبعد ويتعدى الأقرب إلا بقرينة حال ، هذا هو المعلوم في اللسان الذي أنزل به القرآن فالقضاء الذي له المضي في الأمور هو الحكم الإلهي على الأشياء بكذا ، والقدر ما يقع بوجوده في موجود معين المصلحة المتعدية منه إلى غير ذلك الموجود ، فالقضاء يحكم على القدر ، والقدر لا حكم له في القضاء ، بل حكمه في المقدر لا غير بحكم القضاء ، فالقاضي حاكم والمقدّر مؤقت ، ولما أوجد سبحانه كتابين من كونه سبحانه خلق من كل شيء زوجين ، فالقضاء وهو الحكم للكتاب الأول وهو الأم ، ويطلبه حكم الكتاب الثاني وهو القدر الذي به تقوم الحجة ، (وَلَهُ الْحُكْمُ) بالكتاب الأول (وَإِلَيْهِ) إلى هذا الكتاب (تُرْجَعُونَ).
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ