لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ) (٤٣)
الأمثال ما جاءت مطلوبة لأنفسها ، وإنما جاءت ليعلم منها ما ضربت له ، وما نصبت من أجله ، فهي كآيات الاعتبار كلها من القرآن ، وما خلق الله العالم الخارج عن الإنسان إلا ضرب مثال للإنسان ، ليعلم أن كل ما ظهر في العالم هو فيه ، والإنسان هو العين المقصودة ، فهو مجموع الحكم ، ومن أجله خلقت الجنة والنار ، والدنيا والآخرة ، والأحوال كلها والكيفيات ، وفيه ظهر مجموع الأسماء الإلهية ، وآثارها (وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) اعلم أيدك الله أن العالم من علم علم الظاهر والباطن ، ومن لم يجمع بينهما فليس بعالم خصوصي ولا مصطفى ، وسبب ذلك أن حقيقة العلم تمنع صاحبها أن يقوم في أحواله بما يخالف علمه ، فكل من ادعى علما وعمل بخلافه في الحال الذي يجب عليه عقلا وشرعا العمل به فليس بعالم ، ولا ظاهر بصورة عالم ، ولا تغالط نفسك فإن وبال ذلك ما يعود على أحد إلا عليك ، فإن قلت : قد نجد من يعلم ولا يرزق التوفيق للعمل بعلمه ، فقد يكون العلم ولا عمل ، قلنا : هذا غلط من القائل به ، ولتعلم أن مسمى العلم ينطلق اسمه على ما هو علم وما ليس بعلم ، وما نرى أحدا يتوقف بالعمل فيما يزعم أنه عالم به إلا وفي نفسه احتمال ، ومن قام له في شيء احتمال فليس بعالم به ، ولا بمؤمن بمن أخبره بذلك إيمانا يوجب له العلم ، مع أنك لو سألته لقال لك : ما نشك أن ما جاء به هذا الشخص حق ، يعني الرسول عليهالسلام ، وأنا به مؤمن ، فهذا قول ليس بصحيح إلا في وقت دعواه عند بعض الناس ، ثم إذ خلي بفكره قام معه الاحتمال فكان ذلك الذي تخيل أنه علم أمرا عرض له ، فالعلم يعطي العمل من خلف حجاب رقيق ، ألا ترى أن الله تعالى ما نصب الآيات وكثرها إلا ليحصل بها العلم ، لعلمه أن العلم إذا حصل لزم العمل فالعالم هو صاحب الفهم عن الله بحكم آيات الله وتفاصيلها ، وكل من ادعى علما من غير عمل فدعواه كاذبة إن تعلق به خطاب عمل ، وما تلا عليك سبحانه كلامه إلا لتعقل عنه إن كنت عالما.
(خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) (٤٤)
اعلم أن الأشياء على ثلاث مراتب لا رابع لها ، والعلم لا يتعلق بسواها ، وما عداها