من مكنون سره ، فلما أكمل هذه الأركان ، لإنشاء ما يريد من المعادن والنبات والحيوان ، أقام النجوم الثابتة ، والبروج الحاكمة ، والكواكب السيارة وحركات أفلاكها ، وفتح مسالك أملاكها ، فأقامها فكانت الآباء العلويات والأمهات السفليات ، فتناكحا بالحقائق الروحانيات ، والرقائق السماويات ، فتولد بينهما بنات الحكم المعدنيات والنباتيات والحيوانيات ، ثم أنشأ الحق بستانا ذا أفنان ، فيه من كل وليد وقهرمان ، ومن الجواري الحسان ، والنخيل والأعناب والرمان ، ضروب ألوان ، تنساب فيها الجداول انسياب الثعابين ، بين تلك الأزهار والبساتين ، وابتنى قصورا من الذهب والفضة البيضاء ، وأسكنها من كل جارية غضاء ، وفرشها بالحرير من السندس والاستبرق ، والعبقري المرقق ، وجعل حصاها الياقوت والمرجان والزمرد والجوهر ، وترابها فتيت المسك وأكمامها العنبر ، ثم أنشأ دارا أخرى ذات لهب وسعير ، وبرد وزمهرير ، وقيود وأغلال ، وسرابيل من قطران ، وأفاعي كأنها البخت ، وأساود عظيمة الشخت ، وعقارب مكونة من السحت ، وبيوت مظلمة ، ومسالك ضيقة ، وكروب وغموم ، ومصائب وهموم.
فإذا كان الله تعالى مع قدرته ونفوذ إرادته وقوة علمه ، لم يوجد شيئا من المعادن إلا بعد خلق هذه الأدوات ، وأجرام هذه المسخرات ، فاعلم أن الله ما أسكنك هذه الدار ، إلا لتجعلها دار اعتبار ، فتتفكر وتعتبر ، وتذكر وتزدجر ، وتعظّم من سواك فعدلك ، وصورك فجمّلك ، وولاك وملّكك ، وعلمك وحنّكك ، فإن كنت مطيعا لربك ، عادلا في رعيتك ، فستصير إلى النعيم عند الله ، وإن كنت عاصيا جائرا في حكمك ظالما ، فستصير إلى ضيق وعذاب وجحيم ، فخف ربك وذنبك ، وأصلح مع الله قلبك ، وأنذر قومك ، وطهر ثوبك ، ولا يحجبنك سلطان عادتك ، عن تحصيل أسباب سعادتك ، فإن الدنيا لمحة بارق ، وخيال طارق ، وكم من ملك مثلك قد ملكها ، ثم رحل عنها وتركها ، ولا بد لك من الرحلة عنها إلى الآخرة ، فإما أن تعمر درجها ، وإما أن تعمر دركها. واعلم أن الله تعالى ما جعلك ملكا على خلقه ، (كلكم راع وكل راع مسؤل عن رعيته) وأقامك بين الباطل والحق في مقام حقه ، لقصور قدرته عن إصلاح الخلق وتدبيره ، وتصريفه في إظهار الملك وتسخيره ، وإنما ضرب لك بك مثلا في عالم الفناء ، لتستدلّ به على ترتيب الملك الإلهي في دار البقاء ، ولهذا جعل هذه الدنيا ظلّا زائلا ، وعرضا مائلا ، وجعلك