من نظر إلى حسن نظم القرآن وجمعه ، ولماذا قدم ما كان ينبغي في النظر العقلي في ظاهر الأمر أن يكون على غير هذا النظم ، فإن النهار لابتغاء الفضل والليل للمنام ، تبين له من خلف ستار هذه الآية وحسن العبارة عنها الرافعة سترها ، وهو قوله : (مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أمر زائد على ما يفهم منه في العموم بقرائن الأحوال في ابتغاء الفضل للنهار والمنام لليل ، وهو أن الله نبه بهذه الآية على أن نشأة الآخرة الحسية لا تشبه هذه النشأة الدنياوية ، وأنها ليست بعينها ، بل تركيب آخر ومزاج آخر ، كما وردت به الشرائع والتعريفات النبوية في مزاج تلك الدار ، وإن كانت هذه الجواهر عينها بلا شك ، فإنها التي تبعثر في القبور وتنشر ، ولكن يختلف التركيب والمزاج بأعراض وصفات تليق بتلك الدار لا تليق بهذه الدار ، وإن كانت الصورة واحدة في العين والسمع والأذن والفم واليدين والرجلين بكمال النشأة ، ولكن الاختلاف بيّن ، فمنه ما يشعر به ويحس ومنه ما لا يشعر به ، ولما كانت صورة الإنشاء في الدار الآخرة على صورة هذه النشأة ، لم يشعر بما أشرنا إليه ، ولما كان الحكم يختلف عرفنا أن المزاج اختلف ، فهذا الفرق بين حظ الحس والعقل ، فقال تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ) ولم يذكر اليقظة وهي من جملة الآيات ، فذكر المنام دون اليقظة في حال الدنيا ، فدل على أن اليقظة لا تكون إلا عند الموت ، وأن الإنسان نائم أبدا ما لم يمت ، فذكر أنه في منام بالليل والنهار في يقظته ونومه ، وفي الخبر [الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا] ألا ترى أنه لم يأت بالباء في قوله تعالى : (وَالنَّهارِ) واكتفى بباء الليل ، ليحقق بهذه المشاركة أنه يريد المنام في حال اليقظة المعتادة ، فحذفها مما يقوي الوجه الذي أبرزناه في هذه الآية ، فالمنام هو ما يكون فيه النائم في حال نومه ، فإذا استيقظ يقول : رأيت كذا وكذا ، فدل أن الإنسان في منام ما دام في هذه النشأة في الدنيا إلى أن يموت ، فلم يعتبر الحق اليقظة المعتادة عندنا في العموم ، بل جعل الإنسان في منام في نومه ويقظته كما أوردناه في الخبر النبوي من قوله صلىاللهعليهوسلم : [الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا] فوصفهم بالنوم في الحياة الدنيا ، والعامة لا تعرف النوم في المعتاد إلا ما جرت به العادة أن يسمى نوما ، فنبه النبي صلىاللهعليهوسلم بل صرح أن الإنسان في منام ما دام في الحياة الدنيا حتى ينتبه في الآخرة ، والموت أول أحوال الآخرة ، فصدّقه الله بما جاء به في قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ) وهو النوم العادى (وَالنَّهارِ) وهو هذا المنام الذي صرح به رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ولهذا