فكان ذلك من التأديب الإلهي الذي أدب الله تعالى به نبيه عليهالسلام فيما أوحى به إليه ، فقال صلىاللهعليهوسلم : [إنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر] يعني لنفسه ولحق غيره ، [وأرضى كما يرضى البشر] يعني لنفسه ولغيره ، ويعني أن أغضب عليهم وأرضى لنفسي [اللهم من دعوت عليه فاجعل دعائي عليه رحمة له ورضوانا] ثم ذكر المرتبة وهو قوله (يُوحى إِلَيَّ) ولما كان صلىاللهعليهوسلم لم تؤثر فيه المراتب إذا نالها ، قال وهو في المرتبة العليا [أنا سيد الناس] وفي رواية [أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر] فنفى أن يقصد بذلك الفخر ، لأنه ذكر الرتبة التي لها الفخر الذي هو صلىاللهعليهوسلم مترجم عنها وناطق بلسانها ، فذكر رتبة الشفاعة والمقام المحمود ، فالفخر للرتبة ولا فخر بالذات إلا لله وحده ، فلم تحكم فيه المرتبة ، وقال في كل وقت وهو في مرتبة الرسالة والخلافة (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) ، فلم تحجبه المرتبة عن معرفة نشأته ، وسبب ذلك أنه رأى لطيفته ناظرة إلى مركبها العنصري وهو متبدد فيها ، فشاهد ذاته العنصرية ، فعلم أنها تحت قوة الأفلاك العلوية ، ورأى المشاركة بينها وبين سائر الخلق الإنساني والحيواني والنبات والمعادن ، فلم ير لنفسه من حيث نشأته العنصرية فضلا على كل من تولد منها ، وأنه مثل لهم وهم أمثال له ، فقال : (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) ثم رأى افتقاره إلى ما تقوم به نشأته من الغذاء الطبيعي كسائر المخلوقات الطبيعية ، فعرف نفسه فقال : [يا أبا بكر ما أخرجك ، قال : الجوع ، قال : وأنا أخرجني الجوع] فكشف عن حجرين قد وضعهما على بطنه يشد بهما أمعاءه ـ إشارة ـ كان عليهالسلام نائب الحق ، فهو وجهه في العالم ، فكان الحق يقول له : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) أي استتر بعبوديتك ، ولا تظهر مكانتك عندي. واعلم أن جميع ما سوى الله يمكن حصرهم في الأجناس الآتية ، وهم الملك والفلك والكوكب والطبيعة والعنصر والمعدن والنبات والحيوان والإنسان ، وما من صنف ذكرناه من هؤلاء الأصناف إلا وقد عبد منهم أشخاص ، فمنهم من عبد الملائكة ، ومنهم من عبد الكواكب ، ومنهم من عبد الأفلاك ، ومنهم من عبد العناصر ، ومنهم من عبد الأحجار ، ومنهم من عبد الأشجار ، ومنهم من عبد الحيوان ، ومنهم من عبد الجن والإنس ، فالمخلص في العبادة التي هي ذاتية له أن لا يقصد إلا من أوجده وخلقه ، وهو الله تعالى ، فتخلص له هذه العبادة ولا يعامل بها أحدا ممن ذكرناه ، أي لا يراه في شيء فيذل له ، واعلم أنه ما من شيء في الكون إلا وفيه ضرر ونفع ، فاستجلب بهذه الصفة الإلهية