(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٣٠)
(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) أي مائلا في جميع أحوالك من الله إلى الله عن مشاهدة وعيان ، ومن نفسك إلى الله عن أمر الله وإيثار لجناب الله ، ومن كل ما ينبغي أن يحال عنه عن أمر الله (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) إن الإيمان الأصلي هو الفطرة التي فطر الناس عليها ، وهو شهادتهم له سبحانه بالوحدانية في الأخذ الميثاقي ، فكل مولود يولد على ذلك الميثاق ، ولكن لما حصل في حصر الطبيعة بهذا الجسم محل النسيان جهل الحالة التي كان عليها مع ربّه ونسيها ، فافتقر إلى النظر في الأدلة على وحدانية خالقه ، إذا بلغ إلى الحالة التي يعطيها النظر ، وإن لم يبلغ هذا الحد فحكمه حكم والديه ، فإن كانا مؤمنين أخذ بتوحيد الله تعالى منهما تقليدا ، وإن كانا على أي دين كان ألحق بهما ، فالفطرة التي فطر الناس عليها هي (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) فكل مولود يولد على هذه الفطرة ؛ وفطرة كل شيء هو ما يقع به الفصل بين الصور فيقال : هذا ليس هذا ، إذ قد يقال : هذا عين هذا من حيث ما يقع به الاشتراك ، ففطرة الله التي فطر الناس عليها كونهم عبيده ، فمن أحوال الفطرة التي فطر الله الخلق عليها أن لا يعبدوا إلا الله ، فبقوا على تلك الفطرة في توحيد الله ، فما جعلوا مع الله مسمى آخر هو الله ، بل جعلوا آلهة على طريق القربة إلى الله ، ولهذا قال : سموهم ؛ فإنهم إذا سموهم بان أنهم ما عبدوا إلا الله ، فما عبد كل عابد إلا الله في المحل الذي نسب الألوهية له ، فصح بقاء التوحيد لله الذي أقروا به في الميثاق وأن الفطرة مستصحبة (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) ـ الوجه الأول ـ وهو الفطرة وهو ما شهد به لله في أول مرة ـ الوجه الثاني ـ (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) أي التبديل لله ليس للخلق تبديل ، وقد يكون معناه لا تبديل لخلق الله من كونه أعطى كل شيء خلقه ، وخلق الله كلماته فلا تبديل لخلق ، لا تبديل لكلمات الله ، وإنما التبديل لله ، فيسوغ في هذه الآية أن خلق الله هي كلمات الله ، فهي عبارة عن الموجودات ، كما قال في عيسى عليهالسلام إنه كلمته ألقاها إلى مريم ، فنفى أن يكون للموجودات تبديل ، بل التبديل لله ، ولا سيما وظاهر الآية يدل على هذا التأويل ،