مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) فأدخل الحق العالم كله أجمع تحت تسخير هذا الإنسان الأرفع ، فما من ملأ أعلى إلا به مستعل ، وما من ملأ أدنى إلا يتضرع إليك ويبتهل ، فهم بين مستغفر لك ومصلّ عليك ، وملك سلام يوصله من الحق تعالى إليك ، وإذا كان السيد الحق يصلي عليك فكيف بملائكته؟ وإذا كان ناظرا إليك فما ظنك بخليقته؟ وما من فاكهة ونعمة عند تناهيها إلا متضرعة لك خاضعة أن تؤدي لك ما أودع الله من المنافع فيها ، فما في الوجود كله حقيقة ولا دقيقة إلا ومنك إليها ومنها إليك رقيقة ، فانظر أين مرتبتك في الوجود؟ فالعالم كله على الحقيقة أيها الإنسان تحت تسخيرك ، إذ سلم من نظرك وتدبيرك ، فإن كل شيء خلقه الله للإنسان ومن أجله وسخر له ، لما علم الله من حاجته إليه ، فهو فقير إلى كل شيء ليس له غنى عنه ، ولذلك استخدم الله له العالم كله ، فما من حقيقة صورية في العالم الأعلى والأسفل إلا وهي ناظرة إلى هذا الإنسان نظر كمال ، أمينة على سر أودعها الله إياه لتوصله إليه (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) كل نعم الله عظيمة ظاهرة وباطنة ، فظاهرة ما شوهد منها ، وباطنة ما علم ولم يشهد ، وظاهرة التعظيم عرفا وباطنة التعظيم عند أهل الله وأهل النظر المستقيم مما ليس بعظيم في الظاهر ، فلا أرى شيئا ليس عندي بعظيم ، لأني أنظر بعين اعتناء الله به حيث أبرزه في الوجود ، فأعطاه الخير ، فليس عندنا أمر محتقر ، فالكل نعمته ظاهرة وباطنة ، وقد أسبغها على عباده ، وكم من نعمة لله أخفاها شدة ظهورها ، واستصحاب كرورها على المنعم عليه ومرورها ، ومن النعم الباطنة المعارف والعلم به.
(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٢١) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) (٢٢)
(وَمَنْ يُسْلِمْ) وهو الإسلام والانقياد الذاتي للعبد ، لأنه تعالى قال (وَجْهَهُ) ووجه الشيء حقيقته وذاته (إِلَى اللهِ) وجاء هنا بالاسم الله ، لأن الله قد عصم هذا الاسم أن يسمى به غير الله ، فلا يفهم منه عند التلفظ به وعند رؤيته مرقوما إلا هوية الحق لا غير (وَهُوَ مُحْسِنٌ) أي فعل ذلك عن شهود منه ، لأن الإحسان أن ترى ربك في عبادتك ،