بعهوده ـ إشارة ـ من قوله تعالى : (وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) يريد به السلام من الصلاة. اعلم أن المسلّم من صلاته رجلان ، لهما طريقان ، فإن كانا في شخص واحد فقد جمعت له الحقيقتان ، فالعالي من سلّم لكونه انفصل عن أمر ما إلى أمر ما ، إلى اسم ما ، عن اسم آخر ، فيكون سلام توديع وإقبال ، إما من جليل إلى جلال ، أو من جميل إلى جمال ، والدون من سلّم على الرحمن وعلى الأكوان ، فسلامه على الرحمن لانفصاله ، وسلامه على الأكوان لرجوعه إليهم واتصاله ، ولهذا لا يسلم المصلي على يساره إلا إذا جاوره مثله ، فيظهر فيه ظلّه ، ومن خرج عن هاتين الحقيقتين لم يصح سلامه ، ولا قبل كلامه ، فإنه لم يكن عند الحق فينفصل عنه بسلام ، ولم يغب عن الكون فيسلّم عليه عند الإلمام ، وهذه صلاة العوام ، بريئة من الكمال والتمام ، ليس لها انتظام ولا التحام.
(إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً) (٥٧)
(إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ) بالتكلم فيه بما لا ينبغي ، فوصف الله نفسه بأنه يؤذى ، ولم يؤاخذ عن أذاه في الوقت من آذاه ، فأمهلهم ولم يؤاخذهم ، وجعل له ذلك الأذى الاسم الصبور ، فوصف نفسه بالصبور ، وذكر لنا من يؤذيه وبماذا يؤذيه ، وطلب من عباده رفع الأذى مع قدرته على أن لا يخلق فيهم ما خلق ، مع بقاء اسم الصبور عليه ، ليعلمنا أنا إذا شكونا إليه ما نزل بنا من البلاء ، أن تلك الشكوى إليه لا تقدح في نسبة الصبر إلينا ، فنحن مع هذه الشكوى إليه في رفع البلاء عنا صابرون ، كما هو صابر مع تعريفنا وإعلامه إيانا بمن يؤذيه وبما يؤذيه ، لننتصر له وندفع عنه ذلك وهو الصبور ، فمن كان عدوا لله فهو عدو للمؤمن ، وقد ورد في الخبر [ليس من أحد أصبر على أذى من الله] لكونه قادرا على الأخذ وما يأخذ ، ويمهل باسمه الحليم ، وقد كذّب وشتم ورد في الصحيح [شتمني ابن آدم ولم يكن ينبغي له ذلك ، وكذبني ابن آدم ولم يكن ينبغي له] (الحديث) فقوله ولم يكن ينبغي له ذلك لما له عليه تعالى من فضل إخراجه من الشر الذي هو العدم إلى الخير الذي بيده تعالى وهو الوجود ، فكان التعريف بذلك ليرجع المكذب عن تكذيبه ، والشاتم عن شتمه ، فإن الدنيا موطن الرجوع والقبول منه ، والآخرة وإن كانت موطن الرجوع ولكن ليست بموطن قبول ، واتصف الحق بالصبر على أذى العبد ، وعرّف أهل الاعتناء من المؤمنين بذلك