(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ) ، وأي أمانة أعظم من النيابة عن الحق في عباده ، فلا يصرفهم إلا بالحق ، فلا بد من الحضور الدائم ومن مراقبة التصريف (عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ) كان عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال بوحي يناسبها ، مثل قوله تعالى : (وأوحى في كل سماء أمرها) (فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها) لأنها كانت عرضا لا أمرا ، فلهذا أبت السموات والأرض القبول ، لعلمها أنها تقع في الخطر ، فلا تدري ما يؤول إليها أمرها في ذلك ، وأبين أن يحملنها من أجل الذم الذي كان من الله لمن حملها ، وهو أن الله وصف حاملها بالظلم والجهل ببنية المبالغة ، فإن حاملها ظلوم لنفسه ، جهول بقدر الأمانة (وَأَشْفَقْنَ مِنْها) أي خفن أن لا يقمن بحقها ، فاستبر أن لأنفسهن ، فهل ترى إباية السموات والأرض والجبال عن حمل الأمانة وإشفاقهن منها ، عن غير علم بقدر الأمانة وما يؤول إليه أمر من حملها فلم يحفظ حق الله فيها؟ وعلمهم بالفرق بين العرض والأمر ، فلما كان عرض تخيير احتاطوا لأنفسهم وطلبوا السلامة ، ولما أمرهم الحق تعالى بالإتيان فقال للسموات والأرض (ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) طاعة لأمر الله ، وحذرا أن يؤتى بهما على كره ، أترى إباية من ذكر الله لجهلها؟ لا والله ، بل الحمل للأمانة كان لمجرد الجهل من الحامل ، وهل نعت الله بالجهل على المبالغة فيه والظلم لنفسه فيها لغيره إلا الحامل لها وهو الإنسان ، فعلمت الأرض ومن ذكر قدر الأمانة وأن حاملها على خطر ، فإنه ليس على يقين من الله أن يوفقه لأدائها إلى أهلها ، وعلمت مراد الله بالعرض أنه يريد ميزان العقل ، فكان عقل الأرض والجبال والسماء أوفر من عقل الإنسان ، حيث لم يدخلوا أنفسهم فيما لم يوجب الله عليهم ، فإن طلب حمل الأمانة كان عرضا لا أمرا ، وجعل بعض علماء الرسوم هذه الإباية والإشفاق حالا لا حقيقة ، وكذلك قوله عنهما (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) قول حال لا خطاب ، وهذا كله ليس بصحيح ، ولا مراد في هذه الآيات ، بل الأمر على ظاهره كما ورد ، وهكذا يدركه أهل الكشف (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) عرضا أيضا لما وجد في نفسه من قوة الصورة التي خلق عليها ، لأنه لما خلق الله آدم على صورته أطلق عليه جميع أسمائه الحسنى ، وبقوتها حمل الأمانة المعروضة ، وما أعطته هذه الحقيقة أن يردها كما أبت السموات والأرض والجبال حملها (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) ـ الوجه الأول ـ (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً) لو لم يحملها (جَهُولاً) لأن العلم بالله عين الجهل به ، فالعجز عن درك الإدراك إدراك