لمخلوق كسب ولا تعمل في تحصيل مقام لم يخلق عليه ، بل قد وقع الفراغ من ذلك ، فجميع الأحوال اختصاص ، والكسب اختصاص ، فإذا علمت هذا علمت أن الملائكة ما لها كسب بل هي مخلوقة في مقاماتها لا تتعداها ، فلا تكتسب مقاما وإن زادت علوما ولكن ليس عن فكر واستدلال ، لأن نشأتهم لا تعطي ذلك مثل ما تعطيه نشأة الإنسان ، والقوى التي هم عليها الملائكة المعبر عنها بالأجنحة ، وقد صح في الخبر أن جبريل له ستمائة جناح ، فهذه القوى الروحانية ليس لها في كل ملك تصرف فيما فوق مقام صاحبها ، مثل الطائر عندنا الذي يهوي سفلا ويصعد علوا ، وأجنحة الملائكة إنما تنزل بها إلى من هو دونها ؛ وليس لها قوة تصعد بها فوق مقامها ، فإذا نزلت بها من مقامها إلى ما هو دونه رجعت علوا من ذلك الذي نزلت إليه إلى مقامها لا تتعداه ، فما أعطيت الأجنحة إلا من أجل النزول كما أن الطائر ما أعطي الجناح إلا من أجل الصعود ، فإذا نزل نزل بطبعه وإذا علا علا بجناحه ، والملك على خلاف ذلك ، إذا نزل نزل بجناحه وإذا علا علا بطبعه ، وأجنحة الملائكة للنزول إلى ما دون مقامها والطائر جناحه للعلو إلى ما فوق مقامه ، وذلك ليعرف كل موجود عجزه وأنه لا يتمكن له أن يتصرف بأكثر من طاقته التي أعطاه الله إياها ، فالكل تحت ذل الحصر والتقييد والعجز ، لينفرد جلال الله بالكمال في الإطلاق ، لذلك قال تعالى متمّما (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
(ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢)
(ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ) وهو العطاء الإلهي (فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ) وهو المنع الإلهي (فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ) واعلم أن الله ما أمسك شيئا عن إرساله إلا وإمساكه عطاء من وجه لا يعرفه صاحب ذلك الغرض ، مثل المستسقي ، فقد أعطاه الغرض وأمسك عنه الغيث ليستسقيه ، فيقام في عبادة ذاتية من افتقار ، فأعطاه ما هو الأولى به ، وهذا عطاء الكرم ، فلا تنظر إلى جهلك ، وراقب علمه بالمصالح فيك فتعرف أن إمساكه عطاء ، فمن مسكه عطاء ، كيف تنظره مانعا ولا تنظره معطيا؟ وما تسمى بالمانع إلا لكونك جعلته مانعا حيث لم تنل منه غرضك ، فما منع إلا لمصلحة.