فإن الخصم يقول لا ولد إلا من والد ، ولا بيضة إلا من دجاجة ، فأراهم الله تعالى عيسى حجة عليهم ، ولذلك كان آية.
(قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا) (٢١)
لما كانت أحدية الله ذاتية لا نسبة بينها وبين طلب الممكنات ، ومن المحال أن يعقل العقل وجود العالم من هذه الأحدية التي لها الغنى عن العالمين ، وجب عليه أن يرجع إلى النظر فيما يطلبه الممكن من وجود من له هذه الأحدية ، فنظر فيه من كونه إلها يطلب المألوه ، وهو تركيب الأدلة وترتيبها ، ولما كان يجب على الرجل الجمع بين العلم بتلك الأحدية وبين العلم بكونه إلها ، فقال تعالى لزكريا عليهالسلام (كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) فتعدد الأحكام على المحكوم عليه مع أحدية العين إنما ذلك راجع إلى نسب واعتبارات ، فعين الممكن لم تزل ولا تزال على حالها من الإمكان ، فلم يخرجها كونها مظهرا حتى انطلق عليها الاتصاف بالوجود عن حكم الإمكان فيها ، فإنه وصف ذاتي لها ، والأمور لا تتغير عن حقائقها لاختلاف الحكم عليها لاختلاف النسب ، لذلك قال (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) فنفى الشيئية عنه وأثبتها له ، والعين هي العين لا غيرها ، فأحاله إلى النظر والاستدلال ، ولم يقل ذلك للمرأة وهي مريم ، بل قال لها (كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا) فإن المرأة تنقص عن الرجل في العلم بالأحدية الذاتية ، فلم يكلفها النظر في الجمع بينها وبين العلم بالله من كونه إلها ، بل قال لها (وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا) مع أنه متعين على مريم العلم بالأحدية الذاتية وعلم الأحدية الإلهية التي هي أحدية الكثرة ، فإنها ممن تحصّل له درجة الكمال.
(فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا) (٢٢)
جسم عيسى متكون من ماء أمه مريم ، وينكر ذلك الطبيعيون ويقولون إنه لا يتكون من ماء المرأة شيء ، وذلك ليس بصحيح.