(فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) (٢٣)
عيسى عليهالسلام لم يلبث في البطن اللبث المعتاد ، فإنه لم ينتقل في أطوار النشأة الطبيعية بمرور الأزمان المعتادة ، بل كان انتقاله يشبه البعث ، أعني إحياء الموتى يوم القيامة في الزمان القليل على صورة ما جاؤوا عليها في الزمان الكثير. واعلم أنه لا عداب على النفوس أعظم من الحياء ، حتى يود صاحب الحياء ان لم يكن شيئا كما قالت الكاملة (يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) قالت ذلك وهي بريئة في نفس الأمر عند الله ، حياء من الناس ، لما علمت من طهارة بيتها وآبائها ، فخافت من إلحاق العار بهم من أجلها ، فهذا حياء من المخلوق كيف نسبوا إليها ما لا يليق ببيتها ولا بأصلها ، فبرأها الله مما نسبوا إليها لما نالها من عذاب الحياء من قومها ، فإن عيسى عليهالسلام هو عين الكلمة التي ألقاها الله إلى مريم ، لا غير ذلك ، ولا علمت غير ذلك ، فلو كانت الكلمة الإلهية قولا من الله وكلاما لها مثل كلامه لموسى عليهالسلام لسرت ولم تقل (يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) فلم تكن الكلمة الإلهية التي ألقيت إليها إلا عين عيسى روح الله وكلمته ، وهو عبده ، فنطق عيسى ببراءة أمه في غير الحالة المعتادة ليكون آية ، فنفّس الله عن أمه بنطقه ما كان أصابها من كلام أهلها بما نسبوها إليه مما طهرها الله عنه.
(فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا) (٢٥)
فكان ذلك شهادة مبرئة لمريم عليهاالسلام بما سقط من الثمر في هزها جذع النخلة اليابس ونطق ابنها في المهد بأنه عبد الله ، وهما شاهدان عدلان عند الله ، إذ أكثر الشرع في الحكومة بشاهدين عدلين : ولا أعدل من هذين وقام الشاهد الأول بهز الجذع للمناسبة الموجودة ، فإن النخل لا ينتج إلا بتذكير ، فلما هزت الجذع اليابس أنتج من غير تذكير للحين ، كما فعل بعيسى عليهالسلام ، وأما الشاهد الثاني فهو نطق عيسى في المهد ، شاهد ثان على أهل الجحد.