(فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) (٢٨)
(يا أُخْتَ هارُونَ) المقصود هنا هارون عليهالسلام ، وقولهم (يا أُخْتَ هارُونَ) فإن مريم أخت له دينا ونسبا ، فإذا قيل إنه ما هو أخوها لأن بينهما زمانا طويلا ، قلنا : ألا ترى إلى قوله تعالى (وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً) ما هذه الأخوة؟ أترى هو أخو ثمود لأبيه وأمه فهو أخوهم؟ فسمى القبيلة باسم ثمود ، وكان صالح من نسل ثمود ، فهو أخوهم بلا شك ، ثم جاء بعد ذلك بالدين ، ألا ترى أصحاب الأيكة لما لم يكونوا من مدين ، وكان شعيب من مدين ، فقال في شعيب أخو مدين (وإلى مدين أخاهم شعيبا) ولما جاء ذكر أصحاب الأيكة قال (إذ قال لهم شعيب) ولم يقل أخاهم ، لأنهم ليسوا من مدين وشعيب من مدين.
(فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) (٢٩)
عدلت مريم عليهاالسلام إلى الإشارة من أجل أهل الإفك والإلحاد ، فإن الإشارة لا تكون إلا بقصد المشير بذلك أنه يشير ، لا من جهة المشار إليه ، والإشارة إيماء ، جاءت به الأنباء فهي إشارة على رأس البعد ، وهي على قسمين : إشارة تقتضي البعد ، وتبلغ ما لا يبلغ الصوت ، وإشارة تقتضي القرب ولكن بحضور ثالث أو أكثر ، فالبعد الذي فيه ، كون الأغيار حاضرين ، فأشارت إليه متكلة عليه ، فبرأتها شهادته مما قيل ، وتلي ذلك في كل جيل ، في قرآن وزبور وتوراة وإنجيل (قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) لما عندهم من حكم المواطن ، وآتى الله تعالى عيسى عليهالسلام الحكم صبيا ، وهو حكم النّبوة التي لا تكون إلا ذوقا ، فمن حكمه أن حكم في مهده على مرأى من قومه الذين افتروا في حقه على أمه مريم ، فبرأها الله بنطقه وبحنين جذع النخلة إليه ، ومن حكمه عليهالسلام.