بعثناه به (إِلَّا ذِكْرٌ) لأنه أخذه عن مجالسة من الحق لما شاهده ، حين جذبناه وغيبناه عنه وأحضرناه بنا عندنا ، فكنا سمعه وبصره ، ثم رددناه إليكم لتهتدوا به في ظلمات الجهل والكون ، فكنا لسانه الذي يخاطبكم به ، ثم أنزلنا عليه مذكّرا يذكره بما شاهده ، فهو ذكر له لذلك (وَقُرْآنٌ) أي جمع أشياء كان شاهدها عندنا (مُبِينٌ) أي ظاهر له ، ما فيه لغز ولا رمز كما هو في الشعر ، فهو مفصّل ، في عين الجمع ، لعلمه بأصل ما شاهده وعاينه في ذلك التقريب الأنزه الأقدس الذي نال منه صلىاللهعليهوسلم ، فما أخذه عن شعور ، فإنه كل ما عيّنه صاحب الشعور في المشعور به فإنه حدس ـ ولو وافق الأمر ويكون علما ـ فما هو على بصيرة ، وهذا هو الفرق بين العلم والشعور ، فحظ الشعور من العلم أن تعلم أن خلف الباب أمرا ما على الجملة ، لا يعلم ما هو ، وأما العلم فلا يكون حصوله إلا عن كشف بعد فتح الباب ، يعطيه الجود الإلهي ويبديه ويوضحه.
(لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ) (٧٠)
المستغرقون بهذه الدار الدنيا أموات غير أحياء وما يشعرون ، والمؤمنون قد تهيؤوا للحياة فلا بستهم ، فانسحب عليهم اسم الحياة وإن لم يتحققوا بها ، ولذلك وعدوا مهلة بسوف والسين ، قال سبحانه وتعالى : (فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) فبملابسة الحياة يسمعون من النبي صلىاللهعليهوسلم لأنه قد صار حياة محضة لا موت فيها ، وحكمة الله جارية بالمناسبة ، فلا يسمع من الحي إلا حي ، ولذلك قيل له صلىاللهعليهوسلم «لتنذر من كان حيا» وقيل له (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) وقيل له (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) وقد نادى قتلى مشركي بدر وأخبر أنهم يسمعون قوله ، فمن لا بسته الحياة سمع من الحي وأسمع الميت ، لأنه بجزئه الحي ناسب الحي فاستمد منه ، وبجزئه الميت ناسب الميت فأمده.
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ) (٧١)
زاد الله في تشريف خلق آدم عليهالسلام باليدين قوله معرفا الأناسي الحيوانيين بكمال الأناسي المكملين (أَوَلَمْ يَرَوْا) الضمير في يروا يعود على الأناسي الحيوانيين ، (أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ) أي من أجلهم ، الضمير في (لَهُمْ) يعود على الأناسي الكمل المقصودين من العالم بالخطاب