فأراد ما دام في عالم التكليف والتشريع ، يعني حياة التكليف في ظاهر الأمر عند السامعين ، وعندنا أنه لما أوصاه بالصلاة والزكاة وهي العبادة ، دل على أنه لا يزال حيا أينما كان ، وإن فارق هذا الهيكل بالموت فالحياة تصحبه ، لأنها صفة نفسية له ، ولا سيما وقد جعله روح الله.
(وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا) (٣٢)
ثم ذكر عليهالسلام أنه بر بوالدته أي محسن إليها ، فأول إحسانه أنه برأها مما نسب إليها في حالة لا يشكون في أنه صادق في ذلك التعريف ، فمن بره بها كونه برأها مما نسب إليها بشهادته ، وأخبر أنه شق في خلقه ، فإن لأمه عليه ولادة لما كانت محل تكوينه ، وذلك بقوله (وَبَرًّا بِوالِدَتِي) ولم يقل : برا بوالديّ ، فأخبر أنه شق أي من أنثى فقط ، فقلت نسبته العنصرية ، وأتى عليهالسلام في كل ما ادعاه ببنية الماضي ليعرف السامع بحصول ذلك كله عنده وهو صبي في المهد ، وقد ذكر أنه آتاه الكتاب والحكمة ، ولكن غاب عن أبصار الناس إدراك الكتاب الذي آتاه حتى ظهر في زمان آخر ، وأما الحكمة فظهر عينها في نفس نطقه بمثل هذه الكلمات وهو في المهد ، وهو يريد بلفظ الماضي الحال والاستقبال ، فما كان منه في الحال فنطقه شهادة ببراءة أمه ، وتنبيها وتعليما لمن يريد أن يقول فيه إنه ابن الله ، فنزه الله ، وهو نظير براءة أمه مما نسبوا إليها ، فهو في جناب الحق تنزيه وفي جناب الأم تبرئة ، ويدل لفظ الماضي فيه «وأينما كنت» أن يكون له التعريف بذلك من الله ، ثم تمم فقال (وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا) إذ لا يكون ذلك ممن يكون إلا بالجهل ، والجهل فيه إنما هو من قوة سلطان ظلمة العنصر ، ويريد بقوله (وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً) فإن الجبروت وهو العظمة يناقض العبودة وهو قوله (إني عبد الله) ويريد أيضا بقوله (وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً) أي لا أجبر الأمة التي أرسل إليها بالكتاب والصلاة والزكاة ، إنما أنا مبلغ عن الله لا غير ، ثم قال معرّفا عن أمر إلهي.
(وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) (٣٣)
قول عيسى عليهالسلام أكمل في الوصلة ممن قيل فيه (وسلام عليه يوم ولد) وهو