يحيى ، فهذا مقام أول لهذا المقام الثاني ، فإن يحيى من الحياة ، وهي مسخرة لعيسى عليهالسلام فإنه كان يحيي الموتى ، لهذا قلنا فيه أعلى في قوله (وَالسَّلامُ عَلَيَّ) فعرّف عليهالسلام بما له قبل فطامه ، وحكم على نفسه بالاستقامة قبل استحكامه ، وشهد لنفسه بقبول الوصية الإلهية ، بالصلاة النورية والزكاة البرهانية ، وسلم على نفسه في الثلاثة الأحوال ، فإنه لما كان عليهالسلام في المهد دلالة على براءة أمه مما نسب إليها لم يترجم عن الله إلا هو بنفسه ، فقال (وَالسَّلامُ عَلَيَّ) يعني من الله ، لعلمه بمرتبته من ربه وحظه (يَوْمَ وُلِدْتُ) بما نطقت فيكم به من أني عبد الله ، فسلمت من انتساب وجودي إلى سفاح أو نكاح ، ويعني له السلامة في ولادته من تأثير العبد المطرود الموكل بالأطفال عند الولادة ، حين يصرخ الولد إذا وقع من طعنته ، فلم يكن لعيسى عليهالسلام صراخ ، بل وقع ساجدا لله تعالى (وَيَوْمَ أَمُوتُ) يكذّب من يفتري عليه أنه قتل ، فلم يقل ويوم أقتل ، فكأنه يقول : فأسلم من وقوع القتل الذي ينسب إلي من يزعم أنه قتلني ، وهو قول بني إسرائيل (إنا قتلنا المسيح ابن مريم) فأكذبهم الله فقال (وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم) فقال لهم إن السلام عليه يوم يموت سالما من القتل ، إذ لو قتل قتل شهادة ، والشهيد حيّ غير ميت ، ولا يقال فيه إنه ميت كما ورد عندنا النهي في ذلك ، وكذلك لم يزل الأمر ، فأخبر أنه يموت ولا يقتل ، فذكر السلام عليه يوم يموت (وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) ثم ذكر أن السلام عليه يوم يبعث حيا في القيامة الكبرى ، أكّد موته ، والقيامة موطن سلامة الأبرياء من كل سوء ، مثل الأنبياء وغيرهم من أهل العناية ، فهو صاحب سلامة في هذه المواطن كلها ، وما ثم موطن ثالث ، ما هي إلا حياة دنيا وحياة أخرى بينهما موت ، ثم نزه نفسه تعالى عما قاله أهل الضلالة من الضلال ، فقال.
(ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥) وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ