(وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ) (٢٠)
الحكمة علم تفصيلي عملي ، والعلم بالمجمل علم تفصيلي ، فإنه فصله عن العلم التفصيلي ، ولو لا ذلك لم يتميز المجمل من المفصل ، فمن الحكمة العلم بالمجمل والتجميل والمفصل والتفصيل ، والحكمة صفة تحكم ويحكم بها ولا يحكم عليها ، فإن الحكيم من حكمته الحكمة فصرّفته ، لا من حكم الحكمة ، فإنه من حكم الحكمة له المشيئة فيها ، ومن حكمته الحكمة فهي المصرفة له ، وإذا قامت الصفة بالموصوف أعطته حكمها عطاء واجبا ، فامتن الله تعالى على داود بأن آتاه الحكمة فقال : (وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ) عملا بإعطاء كل ذي حق حقه ، ولا يفعل ذلك حتى يعلم ما يستحقه كل ذي حق من الحق ، وليس إلا بتبيين الحق له ذلك ، ولذلك أضافه إليه تعالى فقال : (وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ) وهي هبة من الله تعالى فأعطاه الحكمة (وَفَصْلَ الْخِطابِ) في المقال ، وهو من الحكمة ، والأمر كله مفصّل في علم الله ، ما عند الله إجمال ، وإنما وقع الإجمال عندنا وفي حقنا وفينا ظهر ، فمن كشف التفصيل في عين الإجمال علما أو عينا أو حقا فذلك الذي أعطاه الله الحكمة وفصل الخطاب ، وليس إلا الرسل والورثة خاصة ، فإنه من أوتي الفهم عن الله من كل وجه فقد أوتي الحكمة وفصل الخطاب ، وهو تفصيل الوجوه والمرادات من الكلام ، وفصل الخطاب من المقال ، وسلطانه في قلت وقال ، والقول يطلب السمع ، ويؤذن بالجمع ، فالحكيم يجري مع كل حال وموطن بحسب ذلك الحال وذلك الموطن ، فإنه لفصل الخطاب موطن ، تعطي الحكمة لصاحبها أن لا يظهر منه في ذلك الموطن إلا فصل الخطاب ، وهو الإيجاز في البيان في موطنه ، لسامع خاص لذي حال خاص ؛ والإسهاب في البيان في موطنه ، لسامع خاص ذي حال خاص ، ومراعاة الأدنى أولى من مراعاة الأعلى ، فإن ذلك من الحكمة ، فإن الخطاب للإفهام ، فإذا كرر المتكلم الكلام ثلاث مرات حتى يفهم عنه ، كما كان كلام رسول الله صلىاللهعليهوسلم فيما يبلغه عن الله للناس يراعي الأدنى ، ما يراعي من فهم من أول مرة ، فيزيد صاحب الفهم في التكرار أمورا لم تكن عنده ، أفادها إياه التكرار ، والأدنى الذي لم يفهم فهم الأول فهم بالتكرار ما فهمه الأول بالقول الأول ، ألا ترى العالم الفهم المراقب