أترى سليمان عليهالسلام سأل ما يحجبه عن الله؟ أو سأل ما يبعده عن الله؟ هيهات ، بل هي صفة كمالية سليمانية (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) فما أليق هذا الاسم بهذا السؤال ـ إشارة ـ ارغب في ملك لا ينبغي لسواك ، أي لا يكون ملكك سواك ، بل يكون ملكك عبوديتك ، فتكون أنت عين ملكك ، وتكون نفسك في ملكك تردها وتحكم عليها ، فهذا هو الملك الذي لا يشارك فيه ، فلمثل هذا فليعمل العاملون ، وفي مثله فليتنافس المتنافسون ـ لطيفة ـ لا يعرف لذة الاتصاف بالعبودية إلا من ذاق الآلام عند اتصافه بالربوبية واحتياج الخلق إليه ، مثل سليمان عليهالسلام حين طلب أن يجعل الله أرزاق العباد على يديه حسا ، فجمع ما حضره من الأقوات في ذلك الوقت ، فخرجت دابة من دواب البحر فطلبت قوتها ، فقال لها : خذي من هذا قدر قوتك في كل يوم ، فأكلته حتى أتت على آخره ، فقالت : زدني فما وفيت برزقي ، فإن الله يعطيني كل يوم مثل هذا عشر مرات ، وغيري من الدواب أعظم مني وأكثر رزقا ، فتاب سليمان عليهالسلام إلى ربه ، وعلم أنه ليس في وسع المخلوق ما ينبغي للخالق تعالى ، فإنه طلب من الله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده ، فاستقال من سؤاله حين رأى ذلك ، واجتمعت الدواب عليه تطلب أرزاقها من جميع الجهات ، فضاق لذلك ذرعا ، فلما قبل الله سؤاله وأقاله ، وجد من اللذة لذلك ما لا يقدر قدره ، ثم إن الله تمم هذه النعمة لسليمان عليهالسلام بدار التكليف فقال.
(فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ) (٣٦)
فجعل الله الريح مأمورة ، يعلمنا أنها تعقل ، ولا يسمى الهواء ريحا إلا إذا تحرك وتموج ، فإذا اشتدت حركته كان زعزعا ، وإن لم يشتد كان رخاء أي ريحا لينا. والريح ذو روح يعقل كسائر أجسام العالم ، وهبوبه تسبيحه ، والتسخير الذي اختص به سليمان وفضل به على غيره ، وجعله الله له من الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده ، هو كونه عن أمره ، فإن الله يقول في حقنا كلنا من غير تخصيص (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) وقد ذكر تسخير الرياح والنجوم وغير ذلك ، ولكن لا عن أمرنا ، بل عن أمر الله ، فما اختص سليمان إن عقلت إلا بالأمر من غير جمعية ولا همة ، بل بمجرد الأمر ، فكان من سليمان مجرد التلفظ بالأمر لمن أراد تسخيره من غير همة ولا جمعية.