فاستحق اسم البشر دون غيره من الأعيان ، وسرت هذه الحقيقة في البنين فلم يوجد أحد منهم إلا عن مباشرة ، حتى في وجود عيسى عليهالسلام لما تمثّل لها الروح بشرا سويا ، فجعله واسطة بينه تعالى وبين مريم في إيجاد عيسى ، تنبيها على المباشرة بقوله : (بَشَراً سَوِيًّا).
(فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) (٧٢)
اعلم أنه لما أقام الحق تعالى الإنسان بهذا المقام الأكمل ، ورداه برداء المعلم الأجمل ، فنظرت إليه الروحانيات العلى بعين التعظيم ، وذلك قبل وجود مركبه البهيم ، فإنه تعالى قال لهم : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) فلم يزل عالي الكلمة بعلم الأسماء ، مميزا لتفاصيل الأشياء ، إلى أن أخذت مقاماتها الأملاك ، ودارت بأشواقها الأفلاك ، وانفعلت الأكوان لذلك الدور ، وانعطف المكور عليها بعد الكور ، وظهرت المولدات الجسمانيات والجسميات ، ذوات الكميات والكيفيات ، كالمعدن والنبات والحيوان ، وليس للإنسان وجود في الأعيان ، حتى إذا بلغت الدورة المخصوصة ، وتوجهت الكلمة المنصوصة ، من الحضرة العلية المأنوسة ، بإيجاد هذه الكلمة الهوية المحروسة ، قبض الحق سبحانه ـ كما روي ـ من الأرض قبضة من حيث لا يعلمون ، وخمر طينته بيديه من غير تشبيه ولا تكييف وهم لا يشعرون ، وسواه متجاور الأضداد ، وميّزه بالحركة المستقيمة من بين سائر الأولاد ، وأعطته قوى هذه البنية التصرف بالحركة المنكوسة والأفقية ، ثم أنطق الفهوانية في الروحانيات بخلافته ، فطعنت من فورها في نيابته ، ولو عاينت تشريف اليدين ، ما حجبتهم مجاورة الضدين ، ولأنه سبحانه ما ذكر لملائكته إلا خلافته في الأرض ، وما تعرض للملائكة ، فلما ظهر من الملائكة في حق آدم ما ظهر ، قام ذلك الترجيح منهم لأنفسهم ، وكونهم أولى من آدم بذلك ، ورجحوا نظرهم على علم الله في ذلك ، فقام لهم ذلك مقام خطايا بني آدم ، فكان سببا لسيادة آدم على الملائكة ، فأمروا بالسجود له لتثبيت سيادته عليهم ، فقال تعالى : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) فأمر الله سبحانه الملائكة بالسجود لمعلمهم سجود أمر ـ كسجود الناس إلى الكعبة ـ وتشريف ، لا سجود عبادة ، فهذا السجود كالتواضع والخضوع ، والإقرار بالسبق والفخر والشرف